يعمل المغرب على عدة جبهات لتحصين المملكة من الفكر المتطرف وترسيخ قيم الوسطية والاعتدال، إلا أنه لا يمكن بلوغ ذلك بالتغافل عن عمقه الإستراتيجي ومحيطه الإقليمي. ووضع المغرب إستراتيجية داخلية وخارجية شاملة لمحاصرة الظاهرة وتطويقها.
في ظل تمدد الجماعات المتطرفة في دول أفريقيا جنوب الصحراء ونهجها طريق اجتهادات دينية مغلوطة، مع استغلالها بحث السكان الفقراء عن فرصة عمل في عملية التجنيد وطلبات الالتحاق بالجماعات المتطرفة الآخذة في التوسع، شدد العاهل المغربي الملك محمد السادس السبت على التعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها، والقيام بمبادرات من شأنها تفعيل قيم الوسطية والاعتدال والاجتهاد في كل إصلاح تتوقف عليه عملية التنمية في أفريقيا، سواء على مستوى القارة أو على صعيد كل بلد من بلدانها.
وسجل الملك محمد السادس في رسالة وجهها إلى المشاركين في الندوة المنظمة من طرف مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة دور المغرب في التواصل بين العلماء والفقهاء والمفتين “إدراكا منا للتحديات المستجدة، المرتبطة بتطور الحياة الاجتماعية والحضارية في شتى مناحيها، وضرورة تنزيل الأحكام الشرعية عليها”.
وحسب بيان مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تندرج هذه الندوة العلمية الدولية في إطار جهود ”توحيد العلماء الأفارقة وجمع كلمتهم على ما يحفظ الدين من تحريف المغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وعلى ما يجعل قيمه السمحة في خدمة الاستقرار والتنمية في بلدانهم”.
وقال محمد لكريني أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي إن ما أكده الملك محمد السادس يدخل ضمن إستراتيجية المملكة في تحصين المغرب ومنه دول القارة الأفريقية من التطرف والإرهاب، مع الحفاظ على الهوية المتسمة بالوسطية والاعتدال والتسامح، بمواجهة الأسباب التي تؤدي إلى القيام بهذه الممارسات المجرمة وطنيا، إقليميا ودوليا ومنها الفقر والتهميش والهشاشة.
ولفت لكريني، في تصريح لـه إلى أن ربط العاهل المغربي الوسطية والاعتدال ومواجهة الأفكار المتشددة والمتعصبة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هو الكفيل بمكافحة الظاهرة التي استفحلت في الآونة الأخيرة في العديد من مناطق العالم ومن بينها القارة الأفريقية، على اعتبار هذه السلوكيات لا تتصل بدين معين أو ثقافة معينة وإنما بأسباب عدة مرتبطة بالتنشئة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية وعدم احترام حقوق الأقليات وصعوبة الاندماج داخل المجتمع، ثم الفهم المغلوط للدين الإسلامي والتعصب والتشدد فيه من لدن البعض.
وتعرف فعاليات الندوة مشاركة أكثر من 350 عالما وعالمة ينتمون إلى 72 دولة من أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا الجنوبية، ويمثلون هيئات الإفتاء والمجالس الإسلامية العليا في هذه البلدان، بالإضافة إلى رؤساء وأعضاء فروع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في البلدان الأفريقية، ونخبة من علماء وعالمات المملكة المغربية.
ولا يكتفي المغرب بتحصين الجبهة الداخلية ضد الفكر المتطرف بل يمتد تفاعله مع هذه الظاهرة إلى عمقه الأفريقي، وكان إطلاق مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة مبادرة مكملة لعمل مؤسسات أخرى في ترسيخ قيم الإسلام السمح والمعتدل على الساحة الأفريقية التي تنشط فيها عدد من المجموعات المتطرفة.
إطلاق مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة كان مبادرة مكملة لعمل مؤسسات أخرى في ترسيخ قيم الإسلام السمح والمعتدل على الساحة الأفريقية
ونظرا لما تعرفه بعض بلدان القارة من نزاعات وانعدام الأمن وتغول الجماعات الإرهابية مما يؤثر بشكل كبير على التنمية، أكد العاهل المغربي أن “العلماء مطالبون بالتأثير الإيجابي في الناس سواء داخل أفريقيا أو غيرها، وذلك بأن يبيّنوا لهم محاسن الوسطية والاعتدال، وأن يقوموا مقابل ذلك بنفي التأثير السلبي للأصناف المتطرفة الجاهلة في عقول الأبرياء، لاسيما وأن هؤلاء المنحرفين يدرجون جل كلامهم عن الدين في صنف الإفتاء والفتوى، لما لها من القدسية في أذهان الناس”.
وفي موضوع إدماج الواقع المعيش في الدين اعتبر الملك محمد السادس أن علماء المملكة مثال يُحتذى، حيث ابتكروا في الفقه، عبر القرون السالفة، مفهوم “ما جرى به العمل”؛ أي مراعاة الممارسات الثقافية الفضلى للناس، وتمكنوا بذلك، تفعيلا لآليات الاجتهاد في المذهب المالكي، من الإفتاء بإدماج عدد من عوائد الناس الاجتماعية والثقافية في دائرة الأمور المنسجمة مع توجيهات الدين، ولاسيما من جهة ما يضمن المصالح الدنيوية، ومنها الاطمئنان النفسي، وينبغي الأخذ به في كل بلد من البلدان الأفريقية.
ولمواكبة كل التطورات التي يعرفها العالم لتنمية القارة كعمق إستراتيجي للمغرب طالب العاهل المغربي في إطار التعاون جنوب/جنوب، الذي كرسه الدستور المغربي في تصديره كخيار إستراتيجي بالنسبة إلى المملكة، دعا الملك محمد السادس للتعاون والتشاور الدوري بين العلماء على الصعيد الأفريقي لمتابعة المستجدات في باب الطلب والاستجابة في باب الفتوى، ومشددا على ضرورة حرص المفتين على الاجتهاد لإدماج السلوكيات الثقافية المحلية في دائرة المقبول الشرعي، ما لم يكن فيها ما يناقض القطعيات.
ونظرا لما يشكله منهج الاعتدال والوسطية في عملية نسج تعاون أكبر بين أفراد المجتمع والقادة الدينيين في القارة الأفريقية، شدد لكريني على أن الخطاب الملكي يسعى للحد من الاقتتال الذي تعرفه العديد من المناطق في أفريقيا داخل الدولة الواحدة أو بين الدول والذي يؤثر بشكل أو بآخر على التنمية في مفهومها الشامل، إذ في غياب الأمن والاستقرار ينتشر التأويل الديني المتشدد والجماعات المتطرفة، وهذا ما يؤثر سلبا في تحقيق التنمية داخل القارة.
وكما عمل المغرب على إشاعة الفكر الديني المعتدل والمتنوّر، ومواجهة ما يروّج له البعض من أدعياء الدين، من نزوع إلى التطرف والانغلاق والإرهاب باسم الإسلام، في القارة الأفريقية، فقد عبّر النعم ميارة رئيس مجلس المستشارين عن مساهمة المملكة في بناء نموذج قاري للتنمية المشتركة، من خلال مجموعة من المشاريع والبرامج الدامجة بعدد كبير من دول القارة تهم تطوير البنيات التحتية وتثمين الموارد الداخلية وتقوية المنظومات الصناعية”.