ثورة المهاجرين في فرنسا وأسئلة المستقبل في أوروبا

الأحداث الجارية في فرنسا بعد مقتل المراهق الجزائري نائل المرزوقي ليست مفاجئة، فهي تمثل احتمالاً قائماً على الدوام ومفتوحاً بدرجة مرعبة، لدرجة أن شبكة نتفليكس عرضت العام الماضي فيلم «أثينا» الذي يقدم سيناريو تخيليا لانتفاضة في أحد المجمعات السكنية الفقيرة في فرنسا، ومع أن هذه الغضبة غير مرشحة للتصاعد إلى ثورة أو انتفاضة ممتدة، فضلاً عن إحداث اختراق في المعادلة السياسية الفرنسية، إلا أنها ستترك أثراً تراكمياً ينذر بتحولات كبيرة في فرنسا، وأوروبا من ورائها.
الأم المكلومة وجدت خصومتها مع شخص واحد، وهو الشرطي القاتل، ويبدو أن الظرف النفسي لم يمكنها لتتحدث بأكثر من ذلك، في حين امتلكت الجدة التي رأت المستقبل ينهار في الهزيع الأخير من حياتها، رباطة الجأش لتتحدث، وطالبت بوقف الشغب واستهداف المرافق العامة، ورفضت تعميم الإدانة على الشرطة الفرنسية بأكملها.

الصراع حالياً بين الدولة التي تحترم فكرة المواطنة.. والدولة التي تعتبر وسيطاً وحاضناً قانونياً للشركات، لتمكنها من استكمال أدوار استعمارية قديمة في نسخة جديدة

في مقابل ذلك، وفي وسط الغضب المتصاعد في الشوارع، تمكنت حملة لجمع التبرعات للشرطي القاتل من جمع قرابة المليون ونصف المليون يورو أتت من مناصري اليمين الفرنسي، استجابة لدعوة الإعلامي جان مسيحة، وهو من أصول مصرية، وكان لا يتقن كلمة واحدة باللغة الفرنسية عند وصوله إلى فرنسا. في الوسط، بين جدة عاقلة ويمين فرنسي متطرف، لا تقتصر الاحتجاجات على المهاجرين القادمين من دول المغرب العربي، وتشتمل على قطاع واسع من الفرنسيين الذين يستكملون مسارات «السترات الصفراء» الغاضبة من تحمل الطبقة العاملة لتكلفة البرامج الحكومية الاقتصادية، والضحايا المتكاثرين لموجة التضخم التي أتبعت وباء كورونا، وفي ذلك الوسط، لا يتحدد أي شيء، ولا يمكن الخروج بنتيجة من وجوده في الشوارع، لأن الوسط يتحرك ببطء شديد بناء على رصيده من الثقة في مواقعه، وكلما كان الوسط مستقراً لفترات طويلة أمكن إحداث التغيير الذي يجب أن نفصله عن فكرة التحرك تجاه الأفضل، ولا يضطر الوسط لتقديم التنازلات أو التسويات إلا في حالة تعرضه لهزة كبيرة. لدينا مجتمع مهاجرين، على الرغم من معاناته، يستطيع أن ينتج مع الوقت نخبته التي تتقدم في المجتمع، وتتطور أدواته في التعبير، وهذه النخبة مقلقة، ولذلك تواجه بنخبة أخرى، من المجتمع نفسه تأتي من المهاجرين المتآلفين مع المشروعات الاستعمارية القديمة، عبيد المنازل حسب وصف مالكوم إكس الذين كانوا يستخدمون للسيطرة على عبيد الحقل لمزيد من العمل، مقابل أن ينعموا بملابس السادة القديمة وأحذيتهم. إذا تركنا حالة مسيحة الذي تحول إلى فرنسي أكثر من الفرنسيين بموقعه المتشدد على يمين مارين لوبان، سنجد على الضفة الأخرى من بحر المانش ابن الأسرة الهندية المهاجرة ريشي سوناك يصعّد في تشدده تجاه المهاجرين، والنموذجين، استراتيجية نخبوية من أجل مواجهة التقدم الكمي والنوعي الذي يحققه المهاجرون في المجتمعات الأوروبية. تبدو أوروبا غير قادرة على التخلي عن المهاجرين، ولا قادرة على جعلهم أوروبيين، ولا مستعدة للتنازل عن حصة مناسبة ولائقة من المكتسبات الاجتماعية لهذه الفئات، ولذلك توجد لحظة انفجار كبيرة مهيأة للحدوث، أين ومتى وكيف؟ على الرغم من سيطرة فرنسا وألمانيا على صناعة السياسة والفكر والجنون في أوروبا، فاليمين واليسار فيهما كانا بليدين وبطيئين، غير كافيين لاستحواذات كبيرة وثورية، متوافقان على شيء من التعايش، على الأقل في العقود الأخيرة، أما الدول التي يتوسع فيها اليمين واليسار بصورة تضغط على وجود الوسط بمعناه السياسي والاجتماعي فتتركز في إيطاليا، ودول حوض المتوسط، ولذلك فالصراع متوقع أن يبدأ من حوادث متعلقة بالمهاجرين الجدد عبر الزوارق المتهالكة في المتوسط، أو حادث كبير ومرعب. هذه احتمالية مزعجة للتغيير في أوروبا بطريقة لحظة الانفجار، مع الوصول إلى الكتلة الحرجة من الاختناق الاجتماعي، ولكن توجد فرضية أخرى تتعلق بالوسط الأوروبي وقدرته على إحداث التغيير مع الوقت، ولذلك يجب أن نتفهم ما الذي يحدث في الوسط الأوروبي؟ المزيد من المهاجرين يستطيعون الالتحاق بذلك الوسط التائه المختطف الرئيسي في التحولات التكنولوجية المتسارعة بقدرتها على تشتيته وإلهائه، ومنحه الشعور المخادع بالتحقق أو الأهمية والتأثير، وتأتي الموجة المهاجرة في الوسط لتضع لمستها التي تحمل مشروعاً هوياتياً، وتجعلها متحصنة في مواقعها قياساً بالسيولة التي يعيشها الوسط من المواطنين أوروبيي الأصل، وفي المقابل، يتخلص الوسط بصورة غير مباشرة من حمولته من المتعصبين تجاه البحث عن التحالفات في اليمين المتعصب. استغلال المهاجرين في أراضيهم هو التكلفة الأرخص بالنسبة للشركات المنتجة التي تتحالف مع اليمين، لأنهم سيبقون راضين عن أجور منخفضة وظروف عمل سيئة وغير إنسانية، أما انتقالهم للعملية الإنتاجية في بلدان الشمال المتقدمة، فذلك سيرتب تكلفة عالية، على الرغم من دورهم المهم في تجديد حيوية المجتمعات، ولكن الرأسمالية الجديدة التي فقدت ارتباطها بفكرة الدولة وأسقطت رؤية الوطن والمجتمع من حساباتها المجردة التي تستثمر في العولمة وفرصها حتى القطرة الأخيرة، لن تقبل بعملية هجرة منظمة على صعيد كوكبي تمكن الإنسان، أياً كان عرقه أو جنسه أو هويته من العمل على استثمار الطبيعة بالصورة المثلى، والصراع حالياً بين الدولة التي تحترم فكرة المواطنة وتقدر أهمية الاستقرار، والدولة التي تعتبر وسيطاً وحاضناً قانونياً للشركات لتمكنها من استكمال أدوار استعمارية قديمة في نسخة جديدة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: