سانشيز يزعج تبون.. و الجزائر تبحث عن تاريخ لها في المنطقة
“لعبة الأمم” هو تعبير صحفي شاع وتآلف الصحافيون مع استعماله، وحقيقته، الكامنة وراء صيغته من باب “أعذب الشعر أكذبُه”.. هي صراع وليس مُجرد لُعبة، وبين الدول وليس الأمم، حتى ولو أن بعض الدول تصارع باسم أمّة، إذ داخل أمّة واحدة تجد صراعات وحروبا، وليس لعبة. والمثال الواضح على ذلك، هو هذه “الأمة” العربية وما فيها من حروب، صراعات، مُشاحنات وضَغائن وبين العديد من دولها. ودون الحاجة إلى تجوال في الجغرافيا العربية، وغير بعيد عن المغرب، قيادة الجزائر التي تتغنّى بسعيها، بل تحقيقها، للمّ الشّمل العربي، هي المُصرَّة على تفْريق شَمْل الدول المغاربية، دوَل جِوارها، بعدائها المحموم للمغرب وبحماسها لصُنع دُوَيْلَة في المنطقة تزيدها تمزُّقا، وتُنْتِج فيها مَوْقِدًا آخر للفتن.
الزميل المُبْدع والصديق العزيز الصحافي اللبناني سامي كليب، أنتج برنامجا تلفزيونيا شيِّقا وعميقا، باسم “لُعبة الأمم”، يحوي في أرشيفه حلقات، هي إضاءات لحقيقة وخبايا احْتِقانات وصِراعات وحروب في الساحة العربية. بعضُها من نِتاج لُعبة دَوْلية وبعضها الآخر من حصيلة تلاعُب حُكّام بمصير دُوَلهم وشعوبها. مثال حُكام الجزائر الذين ربطوا جدواهم في إدارة الجزائر، بمُعاكسة المغرب. وفي ذلك رُبّما اندماجهم في لُعبة دوْلية، وبالدقة مصالح دولية، لا يعرفون مبتدأها ولا منتهاها، ما دام يهمُّهم فقط مصالحهم وهواجسهم.
في التدبير العقلاني للدولة، يُفترض أن ينْشغل مُدَبِّروا شؤونها بالإجابة على سؤال: ما موقع بلدنا في المشهد العالمي.. في صراعاته ولم لا، في “لُعبة” الأمم؟ لا يبدو أن حكام الجزائر هذا ما يشغلُهم. عثرتُ في إعلامهم على مشاغل “مهمة” لهم، واحدة منها، التأكيد “العِلمي” بأن “الكُسْكُسِي” جزائري، “وليس مغربي”، كما يُصر باحث جزائري على تسطيره، وبشواهد أنتروبولوجية وبحفريات. والدليل، العثور على “كسكاس” أثري في منطقة جزائرية، يعود لمئات الآلاف من السنين. مبروك على الجزائر الاكتشاف. وهو ينضاف إلى اكتشافات أثرية أخرى في المنطقة المغاربية، تهم أواني طبخ الكسكس. مما “يرجح” أن المنطقة، ولمئات الآلاف من السنين، تفاعلت اجتماعيا وثقافيا و”طَبْخِيًّا”، مع وبالكُسْكُس. لا أملك “ثقافة” الخوض في من له ملكية “حقوق تأليف الكسكس”، المهم أنه لذيذ، وطبيعي أن تكون له تنويعات في المنطقة، مراعاةً لتنوع تضاريسها.. جبلية، سَفْحِيّة، ساحلية، قارية، باردة أو جافة.
◙ لن يبقى الأمر حبيس التبني الدولي للمبادرة المغربية، بل إن المجتمع الدولي، يوجه انتباهه لتوغل بوليساريو، مدلّلة الجزائر وعكّازتها، في النزاع حول الصحراء المغربية، في أوحال منطقة الساحل والصحراء
الإخوة في الجزائر مُنْشغلون بنحت دولتهم الوطنية، وتعبِئَتها بالتاريخ. أتفهَّم هَمّهم هذا. تحصَّلوا على أوّل دولة وطنية لهم، بعد قرون طويلة من الاحتلال العثماني. وبعدَه الفرنسي. وقرونا، قبل ذلك كان “المغرب الأوسط”، أقاليم تابعة لدول مغربية غَطّى نُفوذها شمال أفريقيا. والمغرب، اليوم، يأمُل لإخوتنا في الجزائر، التأقلُم مع دولتهم، وملْئِها بالرّموز والمعاني الأنتروبولوجية والتاريخية. لعل ذلك يعالج القيادة الجزائرية من شعورها بنقص في الهوية، ويساعدها على الاندماج في مُحيطها المغاربي، بلا مُماحكات وبلا شغَب وبلا تحمّل ثقل بضاعة انفصالية، ضدّ المغرب، تقادمت وفاقدة للصلاحية في أجواء مُتحوِّلات وتفاعلات المرحلة الجديدة من “لُعبة الأمم”.
قيادة الجزائر تهدر المال، الوقت والفرص في ما يزيغ بها عن جادّة التنمية، ويهمشها، بل يضعفها في “لعبة الأمم”. إذ من غير المفهوم أن تنشغل الدولة بإنْفاق المليارات من الدولارات في اقْتِناء أسلحة مُعَرّضة للتلف والصدأ، بينما يعاني سكان المدن الكبرى (ويا تُرى ما هو حال المدن الصغرى والقرى) من صعوبات في توفير واحد من أساسات الحياة، وهو الماء. سلطات وهران “زفّت” لسكان المدينة أنها تبذل قصارى الجهود، واستثنائيا، لتوفير الماء، والتقليل من انقطاعاته، خلال عطلة عيد الأضحى. وقد وفرت لتلك الغاية شاحنات وصهاريج إضافية. وذلك البلاغ، لوحده، يكشف حال المدينة مع الماء في سائر الأيام.. وأيضا، وأيضا.. وللأسف، صنّف تقرير سنوي، مرجعي، لمجلة “ذي إكونوميست”، لسنة 2023، الجزائر ضمن مجموعة المدن الأسوأ على الإطلاق بالنّسبة للأجانب، للعيش أو للسياحة. وإذا لم تكُن صالحة للأجنبي فهل تصلح لعيش السكان المحليين؟
كلّ هذا، والقيادة الجزائرية مشغولة، بل مهمومة، بترقب أن تسفر الانتخابات الإسبانية عن فوز الحزب الشعبي الإسباني، على أمل أن يراجع الاتفاقات والتوافقات بين المغرب وإسبانيا. إنها توفر الماء بصعوبة للسكان ولا توفر ظروف العيش المريحة حتى في العاصمة. وتطارد المغرب وهو يتقدّم ويتموقع في “لعبة الأمم”.
العلاقات المغربية – الإسبانية هي “لعب” بين الكبار، وحول قضايا كبيرة وذات بعد عالمي. وليست مجرّد تكتيكات “وتبويس” لحى. تلك العلاقات هي لقاء إرادتين وطموحين، بمُقوِّمات دولتين تُدَارَان بالحِسِّ التاريخي وبعقلانية تدبير المنْفَعة المُتبادلة والمصالح المُشْتركة.
“علاقاتنا مع المغرب إستراتيجية بكل ما تحمل الكلمة من معنى…” في حوار تلفزي إسباني مساء الأحد الماضي، يُوَضِّح بيدرو سانشيز، رئيس الحكومة الإسبانية، أن التّعاون الذي يجمع إسبانيا مع المملكة المغربية إيجابي للغاية. وأن المغرب مهمّ لإسبانيا، “من الناحية التجارية والوُلوج الاقتصادي إلى قارة بحجم أفريقيا، والأمن ومكافحة الإرهاب وسياسة الهجرة دون أدنى شك”. إنه كلام وازن، وما فصّل فيه سانشيز هو أركان إستراتيجية لعلاقات إستراتيجية بين دولتين لهما روافع للتحرُّك المشترك، والمتفاعل مع تطورات مستقبل العالم. ولن يُوَقف هذا المدّ وهذا السّعي وهذه الإرادة، تغير في اللّون السياسي للحكومة الإسبانية.
◙ المغرب، اليوم، يأمُل لإخوتنا في الجزائر، التأقلُم مع دولتهم، وملْئِها بالرّموز والمعاني الأنتروبولوجية والتاريخية. لعل ذلك يعالج القيادة الجزائرية من شعورها بنقص في الهوية، ويساعدها على الاندماج في مُحيطها المغاربي
هي علاقات إستراتيجية في مستوى الدولة وفي عُمْقِها، وليْست محدودة مع اختيارات حزبية للحكومة الإسبانية. وهي علاقات من صميم حاجات إستراتيجية في “لعبة الأمم”، ضمنها تطلعات إسبانية وأوروبية للتّموقع في والتنَفُّع من أفريقيا، عبر مدخل المغرب وبدَعْمِه، وأيْضا في تلك العلاقات جاهزية مغربية لاسْتِقْطاب التّفاعل مع أوروبا ولفائدة أفريقيا ولمصلحته عبر بوابة إسبانيا. وتكفي هنا الإشارة إلى الوتيرة المتسارعة والملحوظة هذه الأيام، لتحريك إعدادات إنجاز الربط القاري بين المغرب وإسبانيا عبر الجسر البحري.. إنه جسر بين قارتين، وله قاعدتان هما المغرب وإسبانيا، ومن شأنه إحداث تحولات جذرية في الجغرافيا وفتح مسار جديد في التاريخ. وقد حصلت، في شأنه، مؤخرا إسبانيا على قرض من الاتحاد الأوروبي بقيمة 2.3 مليون دولار، لإنجاز دراسة جدوى للمشروع حول إمكانية إقامة نفق تحت البحر تعبره قطارات فائقة السرعة. هنا طريق الألف ميل قطع فيها البلدان مئة ميل. ليطمئن الإخوة في الجزائر، ويمكنهم أن ينصرفوا إلى اهتمامات أخرى أفيد لهم.
العلاقات المغربية – الإسبانية، مثمرة وماضية نحو التطور بعيدا عن “اللعبة السياسية الإسبانية الداخلية”. وربما إمعانا في استباق الجواب الإسباني على الترقّب الجزائري، سيقول سانشيز بأن بلاده، بخصوص الصحراء المغربية، “تعتبر المبادرة المغربية للحكم الذاتي الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لحل النزاع”. وفيما يشبه تنبيه قيادة الجزائر إلى الحقيقة الدولية، المؤطِّرة للنزاع، سيضيف “أن الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي والبلدان الأوروبية الرئيسية تُدعِّم مخطط الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب”. ولعل هذا ما سيزعج أكثر عبدالمجيد تبون ورفاقه في الجزائر. إنه نوع من نسف جسور الأمل في تراجع إسبانيا عن موقفها. لأن له، فضلا عن مبرراته، الداخلية، في العلاقات الثنائية مع المغرب، أساسا مرجعية، خلفية وأصالة دولية.
ولن يبقى الأمر حبيس التبني الدولي للمبادرة المغربية، بل إن المجتمع الدولي، يوجه انتباهه لتوغل بوليساريو، مدلّلة الجزائر وعكّازتها، في النزاع حول الصحراء المغربية، في أوحال منطقة الساحل والصحراء في ما يشبه بداية مسخ في جلدها الانفصالي إلى حركة إرهابية، متّصلة ومتماهية مع العصابات والحركات الإرهابية المتناسلة في المنطقة…
ذلك ما درسته ندوة في جنيف نظمتها مجموعة التفكير “مرصد الجيوبوليتيك بجنيف”، نهاية الأسبوع الماضي، وشارك فيها خبراء من مستوى دولي. وهو ما يرجح فرضية أن بوليساريو تتجه نحو الخروج من “قمم” القيادة الجزائرية… إلى فيافي الإرهاب، تحت ضغط انسداد الأفق الانفصالي لدى ميليشياتها، وشعورها بعجز عرّابها وعزلته أمام القناعة الدولية بإخماد نزاع الصّحراء بمياه “الحكم الذاتي”، الصالحة كحل سلمي يفيد المنطقة ومعها العالم. وستكون الجزائر مسؤولة أمام العالم عن النّزوع الإرهابي لبوليساريو.
إنها “لعبة الأمم” وليس أمام الجزائر سوى الخضوع لقواعدها. أو التواري إلى الهوامش بعيدا عن حركة عجلاتها.