نائل مرزوق مراهق جزائري ضحية جريمة عنصرية تترجم عمق الأزمة الفرنسية
فجّر مقتل المراهق الفرنسي ذي الأصول الجزائرية نائل مرزوق (واسمه الحقيقي ناهل) أحداث شغب وعنف، ترجمت أزمة اجتماعية عميقة ما انفكت تطفو على السطح من حين إلى آخر، بسبب خيارات سياسية تصر على تفرد العرق الفرنسي الخالص بكل شيء في البلاد، بينما تستمر مراكمة التهميش والتمييز في حق ساكني الضواحي التي أعدّت لتكون نسيجا معقدا يحتضن الملايين من المهاجرين من مختلف الجنسيات المغاربية والأفريقية.
لم يكن الشرطي القاتل يدرك أن الرصاصة التي أطلقها من مسافة صفرية في صدر نائل مرزوق ستشعل فرنسا من أقصاها إلى أقصاها، وتفجّر أزمة سياسية واجتماعية قوية، وأن ضحيته رغم أنه لا يتعدى الـ17 ربيعا من العمر، سيكشف تغلغل مشاعر العنصرية والتمييز داخل المجتمع الفرنسي بشكل بات يحرج كبار المسؤولين والنخب التي تتغنى بثالوث الحرية والعدالة والأخوة.
وتبقى فرنسا من بين أعقد المجتمعات والدول في القارة الأوروبية لمّا يتعلق الأمر باندماج الجاليات الأخرى، خاصة المنحدرة من المستعمرات القديمة، فالعرق الخالص لا يتقبل التعدد والتنوع الثقافي والعرقي والديني، ليبقى بذلك رهين أفكار أجداده الاستعمارية التي لم يكتب لها النجاح في شمال القارة الأفريقية أو في صحرائها.
ولذلك تبقى المقاربات الأمنية والعلاجات الشكلية وصفات جاهزة لدى السلط والنخب الفرنسية، في احتواء أزمات المهاجرين، فرغم الانفجارات المتتابعة يجري في الغالب اللجوء إلى اللغة الأمنية والقضائية، بينما يتم تجاهل الأسباب الحقيقية التي خلّفت فجوة عميقة بين الجاليات وبين قطاع معتبر من المجتمع والمؤسسات الرسمية.
وبين ناهل ونائل ونايل، اختلفت الأسماء والشخص واحد، والأمر ليس انسيابية لسان ونسق حروف، وإنما خطاب فرنسي ينزعج حتى من الحرف العربي، ولذلك يجتهد في إضفاء مسحة “مفرنسة” على الحروف والأسماء لكي لا تظهر ذات امتداد غير فرنسي، وفي فرنسا يمكن لطالب الجنسية أو بطاقة إقامة أن يسمع سؤالا حول ما إذا كان يتناول أو يطبخ طبق الكسكس، لأن الذهنية الفرنسية تريد اندماجا خالصا وتنزعج حتى من الأطباق غير الفرنسية.
أزمة اندماج اجتماعي
لحسن حظ نائل، الذي قتل ببرودة دم، أن التكنولوجيا دوّنت تفاصيل الجريمة، وأن المبررات الملفقة كلها لا تكفي لأن يطلق عليه الرصاص، وإلا تحول هو إلى مجرم والقاتل هو ضحية، فأكاذيب رموز اليمين لم تتوقف عن فبركة الحوادث والتفاصيل، من أجل إيجاد الذرائع أو الظروف المخففة للشرطي القاتل.
وعلى ما يبدو فإن فرنسا لن تستوعب الدروس لا في هذه الأحداث ولا في أحداث أخرى، فقد كشفت هذه الجريمة الوجه الحقيقي لقطاع من المجتمع الفرنسي، لما تم فتح وعاء مالي لفائدة الشرطي ناهزت مداخيله خلال أيام قليلة سقف المليون يورو، بينما لم يتعد الوعاء الذي فتح لعائلة الضحية سقف الـ200 ألف يورو.
ورغم أن القانون الفرنسي يجرّم جمع الأموال لصالح مرتكبي الجرائم أو لدفع الغرامات، إلا أن الوعاء الذي فتحه سياسيون يمينيون رفعوه إلى منصة أميركية زعمت أنها قبلت بذلك لأن الأموال المعنية موجهة إلى عائلة الشرطي وليست إليه شخصيا، بينما لم يلاحظ المساهمة الفرنسية في وعاء الضحية لإذابة الجليد الذي رسّبته الجريمة.
◙ في فرنسا لا شيء يكفل لحامل جنسيتها حقوقه، فجنسية نائل الفرنسية لم تشفع له أمام شرطي بسيط أرداه قتيلا
نائل، وحيد أمه والذي يعيش معها منذ ولادته، ينحدر من ضاحية نانتير الباريسية، وهي واحدة من الضواحي التي تخفي وراءها أزمات اجتماعية متراكمة، بسبب سياسات التمييز والتهميش، حيث تقل فرص الشغل والدراسة والتكوين، وتنتشر جميع أشكال الجريمة والممارسات غير الشرعية، لدى سكانها القادمين أو المنحدرين من أصول مغاربية أو أفريقية.
في فرنسا لا شيء يكفل لحامل جنسيتها حقوقه واحترامه، إلا إذا كان من عرق خالص، أو من عدد قليل من المهاجرين النخبويين، فإن البقية تخاطب بعبارة “فرنسي من أصل فلاني”، ولم يسلم من ذلك حتى شخصيات ونجوم في مختلف المجالات، ولذلك فإن جنسية نائل الفرنسية لم تشفع له أمام شرطي بسيط يشتغل في تنظيم المرور وأرداه قتيلا.
لأنه ينتمي لأكبر جالية في فرنسا، فقد اندلعت مشاعر التعاطف والتضامن الشعبي الجزائري في فرنسا والجزائر، واشتعل الفتيل في فرنسا من أقصاها إلى أقصاها، فأضرمت النيران وخرّبت الممتلكات واعتدي على عناصر الأمن، وامتدت العدوى من العاصمة إلى مرسيليا جنوبا وليل شمالا في أيام قليلة.
ووجدت فرنسا نفسها لأول مرة في مواجهة موجة احتجاج وعنف وشغب، لكن وعاؤها هم فتية ومراهقون لا يتعدون سن الـ18، وهي رسالة تستدعي التوقف عندها، لدراسة الهوة السحيقة ليس بين الكبار والبالغين وبين مؤسسات الدولة، بل الأمر يمتد إلى جيل يهدد الكيان الفرنسي بالكراهية التي يضمرها لفرنسا الرسمية بسبب خطابها وسياساتها، وأن الأزمة لا تتوقف عند جيل معين بل هي متوارثة أبا عن جد وانتقلت الآن إلى الأطفال.
العلاقة بين فرنسا الرسمية والجاليات المهاجرة محكوم عليها بالتوتر والانقباض، فالملايين من القادمين أو المنحدرين، رغم أنهم يرون في الأضواء الباريسية والخدمات مزايا لا يمكن مقارنتها مع بلدانهم الأصلية، إلا أن سياسات الجحود والتنكر الممارسة في حق إنجازات أجدادهم الذين حرروا فرنسا وشيدوها، تنقل مشاعر الغضب والحنق عبر الأجيال، ولذلك تطفو مظاهره في كل مناسبة يهتز فيها الشارع.
جرد حساب
العلاقة الجزائرية – الفرنسية رسميا وشعبيا ذات خصوصيات دقيقة، فالماضي لا زال يحكم مشاعر الأجيال المهاجرة وأذهانها، ولن تستطيع فرنسا التخلص من ذلك ما دامت لا تريد تسوية عادلة ونزيهة للتاريخ والذاكرة المشتركة، ورسالة أحد الشباب المشاغبين، التي حض فيها على تفكيك برج إيفل لأن مادته الأولية من الحديد الذي هربته فرنسا الاستعمارية من الجزائر، يحمل دلالة صريحة على دور الماضي في صناعة أفكار الأجيال وتوجيهها.
وبين الشعبين أنهار من الدماء وجسور من الجماجم وسجلات من الجرائم الوحشية، وهو ركام لا يمكن تفكيكه أو إزاحته بقرار سياسي استعراضي أو مناوراتي، في ظل غياب إرادة
حقيقية لدى سلطات البلدين لمعالجة الملف، وفي ظل غياب سياسة إدماجية جادة تكفل خصوصيات المهاجرين وتحفظ لهم امتدادهم الحضاري والروحي، فالأحداث أكدت بشكل مفاجئ روابط بين أطفال ومراهقين وبين خلفياتهم وأصولهم، أكثر من روابطهم بمجتمع يطلب منهم الذوبان الكلي في خصوصياته لكنه يميزهم عن نفسه.
◙ الأحداث كانت مواجهة جزائرية – فرنسية غير معلنة فالشعارات تعدت التضامن مع الضحية نائل مرزوق إلى تصفية حسابات سياسية
وبعد أيام من الشغب والعنف، استعادت الحكومة الفرنسية الهدوء تدريجيا، لكنها تتفرغ الآن إلى جرد حصيلة الخسائر المادية التي طالت الممتلكات والبنايات والمركبات، لتجد نفسها أمام أعباء إضافية هي في غنى عنها، فلو أنفقتها في تدريس سكان الضواحي وتكوينهم وتشغيلهم لكسبت وعاء شعبيا واستقرارا اجتماعيا.
والأمر لا يتوقف عند ذاك بكل تأكيد، لأن المسألة تتعدى حدود الخسائر المادية، إلى نظرة فرنسا الرسمية وموقفها والواقعة تحت نفوذ اليمين المتطرف إلى الجالية الجزائرية التي كانت الفتيل والوعاء الذي أشعل فرنسا، ويطرح سيناريوهات مختلفة حول مصير ذلك الوعاء الشعبي ومكانته بمهاجريه وبمجنّسيه، خاصة وأن الخطاب السائد لا يدفع إلى التهدئة وجبر الخواطر.
ورغم أن الأحداث كانت شأنا فرنسيا داخليا، إلا أنه كان مواجهة جزائرية – فرنسية غير معلنة، فالشعارات تعدت التضامن مع الضحية نائل مرزوق إلى تصفية حسابات سياسية، لاسيما بعد دخول الخارجية الجزائرية والطبقة السياسية على خط الأزمة للتنديد بالجريمة والانشغال بوضع الجالية.
وفي موقف نادر وصف بـ”التدخل في الشأن الداخلي الفرنسي”، أعربت الخارجية الجزائرية عن إدانتها لمقتل الشاب نائل، وعن قلقها حول الجالية المهاجرة، وهو ما ترجم الحالة المأزومة لعلاقات الطرفين، وأظهر تصيد الجزائريين الفرصة لإقامة الحجة على سلطات الإليزيه، لتأكيد تغلغل اليمين العنصري داخل المؤسسات الرسمية لتفخيخ العلاقات الرسمية.
ووصفت السلطات الجزائرية مقتل الشاب نائل ذي الأصول الجزائرية، بـ”الصادم”، وقالت إن التصفية الجسدية للشاب بسلاح الأمن الفرنسي في ضاحية نانتير الباريسية هو قتل “وحشي”، وهي مفردات غير مسبوقة في القاموس الدبلوماسي الجزائري تجاه السلطة الفرنسية.
ولفتت إلى أنها “علمت بصدمة واستياء بوفاة الشاب نائل بشكل وحشي ومأساوي والظروف المثيرة للقلق بشكل لافت التي أحاطت بحادثة الوفاة، وأنها على ثقة بأن الحكومة الفرنسية ستضطلع بواجبها في الحماية بشكل كامل من منطلق حرصها على الهدوء والأمن اللذين يجب أن يتمتع بهما مواطنونا في بلد الاستقبال الذي يقيمون به”.
مواجهة غير معلنة
ألمح الموقف المستجد إلى قلق السلطة الجزائرية من تطورات موجة العنف في فرنسا، خاصة في ظل حملة الاعتقالات والتوقيفات التي طالت عشرات الأفراد أغلبهم من الجالية الجزائرية أو من ذوي الجنسية المزدوجة، وهو ما يعتبر تحولا لافتا في خطاب الدبلوماسية الجزائرية تجاه فرنسا الرسمية.
ويبدو أن الجزائر وجدت في فرصة أحداث الشغب التي اندلعت في أعقاب مقتل الشاب المذكور للتعبير عن مقاربتها الرافضة لتغلغل اليمين العنصري في مؤسسات رسمية لتفخيخ التقارب الذي أعرب عنه الرئيسان عبدالمجيد تبون وإيمانويل ماكرون منذ عدة أشهر، قبل أن تتوتر تلك العلاقات لأسباب مختلفة ترجعها الجزائر إلى تيار اليمين المتصاعد والمؤثر في القرار الرسمي.
◙ الجزائر وجدت في أحداث الشغب التي اندلعت فرصة للتعبير عن مقاربتها الرافضة لتغلغل اليمين العنصري في مؤسسات رسمية
وخلصت الخارجية إلى أن “الحكومة الجزائرية لا زالت تتابع باهتمام بالغ تطورات هذه القضية المأساوية، مع الحرص الدائم على الوقوف إلى جانب أفراد جاليتها الوطنية في أوقات الشدائد والمحن”، الأمر الذي يوحي بانزعاج الجزائر من المعالجة الأمنية التي تطبقها باريس في احتواء موجة الغضب بدل الذهاب إلى مقاربة مجتمعية ترفع التمييز والإقصاء وتكرّس التعدد والتنوع.
وكانت سوريا أول بلد يعرب عن تضامنه مع أسرة الضحية ومع ما تعرضت له الجالية الجزائرية من حملة توقيفات ومتابعات، عبر بيان لوزارة الخارجية، حمل رسالة سياسية ودبلوماسية تعبّر عن جرد حساب من دمشق لباريس، وعن تعاطف مع الحكومة الجزائرية كرد جميل على موقف وجهد الأخيرة لإعادة سوريا إلى المجتمع العربي.
وكان تسجيل مدته أقل من دقيقة تم تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي كافيا لدحض الرواية التي قدمها الشرطيان ونقابة الشرطة الفرنسية، التي ألقي فيها باللائمة على الشاب المغدور وحاول تحميله مسؤولية ما وصف بـ”الدفاع عن النفس”، الأمر الذي غذّى موجة الغضب، خاصة بعد دخول بعض وسائل الإعلام المحلية على خط التخفيف من جرم الشرطي القاتل.