فرنسا الفكرة أم فرنسا الغطرسة؟

لا شيء سوى الغطرسة هي التي حالت دون إنهاء أعمال العنف في المدن الفرنسية مبكّرا. والغطرسة لا تنفع أحدا.

لو لم يكن متغطرسا، كبقية مؤسسته “الجمهورية”، لكان الرئيس إيمانويل ماكرون قادرا على معالجة الأزمة، بمقدار قليل من التفهم للأسباب التي تدفع العشرات، وربما مئات الآلاف من الشباب في الضواحي، إلى ممارسه أعمال الحرق والتخريب. هم يقولون بوضوح إنه إذا كانت التظاهرات السلمية لا تنفع في إيصال أصواتهم، فماذا يبقى لهم؟

لا تريد المؤسسة أن تعترف أن هناك تهميشا اجتماعيا. لا تريد أن تعترف أن هناك تمييزا عنصريا. لا تريد حتى أن تقرأ الأرقام عن معدلات الفقر والبطالة في الضواحي. إنها مؤسسة عمياء إلى درجة لا ينفع معها حتى التخريب. هذا ما تقوله هي بنفسها للشباب الغاضبين. لا تريد أن تعترف أيضا أن المخالفات المرورية في كل العالم لا يتم التعامل معها بإطلاق النار. هذا شيء مجنون. ولكنها لا تريد أن ترى أنها هي نفسها، بتلك الغطرسة، مؤسسة مجانين. تستند إلى معايير من الإطراء الذاتي لا تتناسب مع الحقائق. لا تريد أن ترى الحقائق. ولا أن تعرف أنها باتت من القسوة بمكان، بحيث لا يهدأ انفجار اجتماعي حتى يبدأ آخر.

لقد كان عملا وحشيا، وغير معقول، ولا يتوافق مع فكرة فرنسا عن نفسها، أن يقوم ضابط شرطة بإطلاق النار على طفل، لمجرد أنه ارتكب مخالفة.

◙ حان الوقت لفرنسا أن ترى أنها فكرة مزيفة. الغطرسة هي التي جعلتها كذلك وهي تنقاد مثل الأعمى إلى حرب أهلية حقيقية تتحول فيها الفوضى إلى خراب قد لا يمكن ضبطه بتنازلات

لا تستطيع أن تضع هذا النوع من أعمال القتل المتعمد، لطفل، في أيّ خانة حضارية يمكن لفرنسا أن تدّعيها. هدم متحف اللوفر أهون من ذلك. سقوط برج إيفل أخف وطأة. سكب البنزين على أجمل لوحات بيكاسو، أقل وحشية. إذا كانت فرنسا، في جانبها الأهم، هي مجرد فكرة، وكانت تلك الرموز الفنية والمعمارية والأدبية تجسيدا لها، فإن الرصاصة التي اخترقت قلب ذلك الطفل أطاحت بها. هدمتها دفعة واحدة. أهانتها. بصقت عليها. وذلك في دلالة على أن فرنسا – الفكرة ليست هي فرنسا ذلك الشرطي، ولا هي فرنسا مؤسسة الغطرسة، والرئيس ماكرون، وحكومته، ليسا سوى قول منافق، أعمى. ولا يريد أن يرى الواقع.

لقد كان بوسع الرئيس ماكرون أن يتتلمذ على يد تلاميذ الضواحي. إن لم يفعل، فإنهم سوف يجبرونه في النهاية على أن يتلقى الدرس. السياسات العنصرية التي يُنكرها هي التي تقف وراء الاحتجاجات. ولئن بدا قادرا على قمعها اليوم، فإنه لن يقدر على قمعها غدا. إنها بالفعل مسودّة حرب أهلية يخطط لها العنصريون واليمين المتطرف الذي نجح حتى الآن في استقطاب نحو ثلث الشعب الفرنسي. الثلث الذي على الهامش يتسلح بالغضب. بالمزيد منه. بالاستعداد لإطلاق النار أيضا. خرطوشتان أو ثلاثة اليوم، ولكنها ستكون رصاصات غدا. حتى إعلان حالة الطوارئ لن ينفع. لأنها تفعل فعلها فقط بالخوف منها. فإذا سقط الخوف، سقطت.

لا يريد ماكرون أن يرى أن الفقر سلاح قاتل. لا يستطيع حتى أن يتخيل كيف يمكنه أن يتنازل لتلاميذ صغار.

هؤلاء التلاميذ يعرفون ماذا يريدون. يعرفون ممّ ينتقمون. ويعرفون أيضا أنهم لا يملكون ما يخسرونه في الرد على العنف بالعنف.

ماكرون، ومؤسسته العمياء، هما الطرف الذي لا يريد أن يفهم.

ما صلة “الجمهورية” بالأحياء المغلقة على فقرها وهامشيتها، لكي يجوز أن يُطالب المحتجون باحترام قيمها؟ ولماذا بقيت اعتبارات التحضر الإنساني عاجزة عن أن تجد تفسيرا للمسالك الوحشية التي تسلكها الشرطة؟ كان شيئا مخيفا، قائما بمفرده، أن تعرف أن 13 شخصا آخر قتلوا العام الماضي بسبب مخالفات مرورية على أيدي الشرطة. هذه مجزرة. وهي بلا معنى. كما أنها تنمّ عن تصور أحمق وجبان ومنحط للعلاقة بين مؤسسة الأمن وأبناء المجتمع. أحمق، لأن المخالفات المرورية تمرّ بغرامات وعقوبات تأديبية. وجبان لأنك لا تطلق النار على سائق أعزل. ومنحط لأنك لا تقتل بهذه الطريقة بينما تزعم أنك تنتمي إلى مجتمع إنساني من أيّ نوع.

يحتاج الرئيس ماكرون أن يتواضع أمام الحقائق. كان بوسعه أن يستدعي نخبة من تلاميذ الاحتجاجات ليسألهم بنفسه: لماذا تفعلون ما تفعلون؟ وماذا تريدون؟ وما هي فرنسا بالنسبة إليكم؟ وكيف يمكن أن تكون أفضل للجميع؟

سوف يقولون له بوضوح. وسيكون كلامهم صادقا، بل طاهرا، وعميقا ليس بأقل مما يفعل أيّ كتاب فلسفة.

أشياء كثيرة كانت سوف تتضح أمام عينيه بجلاء. وكان يمكن للتمرد أن يتوقف بإعادة نظر قانونية توقف استخدام السلاح في الشوارع، وتضع حدا للفقر والتهميش والتمييز العنصري.

◙ المؤسسة لا تريد أن تعترف أن هناك تهميشا اجتماعيا. لا تريد أن تعترف أن هناك تمييزا عنصريا. لا تريد حتى أن تقرأ الأرقام عن معدلات الفقر والبطالة في الضواحي

البلد ليس في حالة جنون، كالتي تقترحها المسالك الوحشية للشرطة. البلد ليس في حالة حرب أهلية تجعل إطلاق النار هو وسيلة التخاطب الوحيدة للامتثال للأوامر. البلد الذي يعيش ثلثه على هامش النبذ والعزلة هو الذي يجب أن يصحو من منامه.

الفقراء يحترمون القانون، عندما يحترم القانون حقوقهم. دون ذلك، لا تطلب شيئا. وفي حين يستطيع الفقراء العيش من دون قانون، كما هو حالهم في الضواحي، فإن الأغنياء لا يستطيعون العيش من دون قانون. هم في حاجة إليه أكثر من الطرف الآخر. فإذا كان الأمر كذلك، فإن السبيل الوحيد لغلبة القانون، هو أن يبدو مفيدا لمن لا يشعرون بالحاجة إليه؛ أن يكون ذا معنى لمن تُركوا في وضع لا يعني فيه احترام القانون أيّ شيء بالنسبة إليهم.

طفل دون السن القانونية يقود سيارة. مخالفة؟ نعم، ولكن في نظر مَنْ؟ طفل يحطم زجاج المحلات، أو يحرق السيارات. يرتكب جريمة؟ نعم. ولكن عندما لا يصل القانون بقيم العدالة إليك، فلماذا تتبرع له بشيء لا يستحقه؟

لقد حان الوقت لفرنسا أن ترى أنها فكرة مزيفة. الغطرسة هي التي جعلتها كذلك. وهي تنقاد مثل الأعمى إلى حرب أهلية حقيقية، تتحول فيها الفوضى إلى خراب قد لا يمكن ضبطه بتنازلات، لا تكلف اليوم إلا استدعاء المنطق.

لن يمضي وقت طويل قبل أن يتولى اليمين المتطرف السلطة. الفاشيست الجدد هم الذين يستعدون لكي يفرضوا إرادتهم بالقهر والقوة. سوف يقولون ما يقوله ماكرون اليوم “ندافع عن قيم الجمهورية”. وسوف تندلع حرب يسقط من جرائها الآلاف من الضحايا. عندها سوف تتضح الصورة، وذلك عندما تتسع معالم المجزرة. سوف تُكمل الفكرة المنحرفة دورتها عندما تغرق فرنسا في بحر من الدماء؛ بحر اختارته بنفسها لنفسها، لأنها لم تشأ أن تفهم. ولم تر أنها فكرة مزيفة، وأن الغطرسة فيها لا تنفع.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: