في كل سنة يطفو على السطح نقاش نمطي حول إحتفالات الشعب المغربي بالطقوس الإحتفالية لبيلماون بوجلود،السبع بولبطاين، إمعشار،بوسليخين،تكسدوفت ،ثبّا الشيخ ، بورماون ، بودماون ، بولحلايس،بوهو، شخشو ؛ حيث تختلف التسميات و المسميات لهذه الطقوس الإحتفالية الكرنفالية من منطقة لأخرى من شمال المغرب إلى جنوبه بل تمتد إلى داخل الفضاء المغاربي و المتوسطي الأرحب حيث نجد الإحتفالات بهذه الطقوس الفرجوية مستمرة في مناطق مختلفة من دول البحر الأبيض المتوسط بمسميات أخرى و بأشكال متقاربة لكن تصب في نفس السياق في جزر الكناري لدى أمازيغ الغوانش و في كورسيكا و إيطاليا و الجزائر و ليبيا و تونس و في دول إفريقية و أمريكا اللاتينية .
تشجيع البحث العلمي و الأكاديمي حول هذه الطقوس الفرجوية و تنقيتها من الشوائب و إعادة تثمينها وفق ضوابط و قوانين علمية و أكاديمية صارمة هو أول خطوة تمكننا من إستعادة أجواء هذا الطقس الفرجوي الملحمي الذي يجسد جزءا مهما من التاريخ السحيق للأمة المغربية بكل مكوناتها و روافدها.
في محاولة جريئة للإعتناء بهذا الموروث الحضاري المغربي المتفرد تحوَّلت أسطورة بيلماون/ بوجلود المغربية سنة 2018 إلى عمل مسرحي من تأليف و إخراج المسرحي الشاب أمين غوادة و تقديم “فرقة فيزاج المسرحية” عمل فني حاول فيه مخرج العمل الدمج بين المسرح الحديث والفرجة الشعبية حيث إستخدم المخرج تقنيات مختلفة لخلق تجربة فنية مميزة بإعتماد “المسرح الحديث” في إستخدام الأساليب التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة مثل الإضاءة والصوت والجرافيكس ثلاثي الأبعاد بينما يتمثل المعنى الأساسي لـ “الفرجة الشعبية” في إستخدام تقنيات تتميز بالتقليدية والتراثية مثل الرقص الطقوسي والبانتوميم المسرحي والغناء الملحمي والإرتجال الخلاق و الإعتماد على نص مسرحي مرصع بالأمثال الشعبية سواء بالإتكاء على اللغة الأمازيغية أو اللغة العربية في قالب كوريكرافي متميز حيث دمج المخرج هذه التقنيات و الأساليب بشكل مبدع من خلال العودة إلى أسطورة “بيلماون ” الذي يجسّد أسطورة “الإله الكبش “وما جرى توارثه من قصص و مرويات و محكيات في التراث المغربي العريق ، حيث عمد المخرج إلى تقديمه في قالب غروتيسكي من خلال الإلتزام نوعا ما بالقواعد الرئيسية لمسرح الكروتسيك : النشاز وعدم التناسق، المرعب والهزلي، الإسراف والمغالاة، التشويه الخارج عن المألوف.
الغروتيسك يعتبر من المفاهيم المهمة التي تم إدخالها بشكل كبير في المسرح الحديث و المسرح العبثي أو المسرح المظلم، والذي يتميز بالتعبير عن الجوانب المظلمة و التشوهات النفسية والجسدية للإنسان في علاقته التفاعلية مع قضايا المجتمع بتوظيفه هذا المفهوم لخلق جو من الرعب والتشويق في العرض المسرحي وقد يتم استخدام التصاميم المرعبة والحركات الغريبة والموسيقى الغامضة في العرض المسرحي .
تعد مسرحية “بيلماون” إحدى المسرحيات الفريدة في المشهد المسرحي المغربي في السنوات الأخيرة ، قام المخرج والكاتب أمين غوادة بتجسيد أسطورة “بوجلود” الأمازيغية من خلال دمج ذكي لتقنيات المسرح الحديث والفنون الشعبية، مما يوفر تجربة فنية ممتعة ومثيرة للجمهور و تتضمن المسرحية العديد من العناصر الثقافية والتراثية التي تعبر عن الهوية المغربي والتي إنتقلت من جيل إلى جيل في شكل قصص وأساطير من الأجداد ؛ تقع أحداث المسرحية في زمن قديم بجنوب المغرب تتمحور حول شخصية “أماون” و هو زعيم قبلي يترأس مجموعة من قبائل سوس يملك كبشا فحلا قويا من سلالة نادرة تعرف بـ”إيزغر” في موسم شديد الجفاف حيث تصاب أكباش القبائل بوباء يودي بحياتها وهو ما يدفع زعماءها إلى التوسل إلى “أماون” حتى يمنحهم كبشه “إيزغر” ليخصب نعاجهم يرفض “أماون” فيختفي الكبش بطريقة غامضة يبحث عنه في كل القبائل بدون جدوى فلا يجد حلا إلا قبول خطة ساحرة القبيلة “هرمة” بأن تحوله إلى كبش حتى يتمكن من التواصل مع النعاج لمعرفة الحقيقة و لتحديد الخائن الذي قام بسرقة كبشه المقدس ،حيث تغوص المسرحية بالمتفرج بذكاء في مبحث الزعامة و كيفية تدبيرها في مجتمع متصالح و تضامني كالمجتمع الأمازيغي المغربي المعروف بروحه التكافلية الاصيلة .
كاتب العمل إعتمد صيغة إبداعية تتمثّل بإعادة إنتاج أسطورة بيلماون و تأويلها دراميا وفق رؤية معاصرة و إحداث تغيير في الأحداث والشخوص و رؤيتها الفلسفية لتتناغم ومشاغل عصرنا الحالي، وقضاياه الاجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية إنطلاقا من منظومة الأفكار والتصوّرات التي يحملها.
المسرحية هي محاولة جادة لإعادة بعث طقس أسطوري تراثي مغربي أصيل و إعادة تقديمه في قالب فني جاد تعالج مجموعة من الإشكالات المجتمعية .
المحكيات الفولكلورية الأخرى حول بوجلود أو بيلماون تتحدث عن شاب أمازيغي صنع ثوبا من جلود الخراف، وتنكر بقناع له وجه كبش ،ظهر لأمه في الظلام، فأرعبها بعد أن ضربها بقائمة كبش يمسكها بيده، فدعت عليه أن يبقى بشكله الجديد، فأصابته لعنة الدعاء، فنبتت على جلده هيأته التنكرية الحيوانية ، فلم يستطع البقاء في القرية بسبب شكله الجديد، فأخذ يعمد إلى الاختفاء في إحدى المغارات نهارا، وعندما يحل الليل يعود إلى القرية، ليلتقي بأصحابه ويحصل على الطعام من خلال طرقه على أبواب أهل القرية، طالبا منهم ما يحتاجه من قوت، مقابل أن يصافحهم بقائمته الحيوانيّة لينالوا بركته، لما للكبش من تمثلات قدسيّة في إعتقادات أهل المغرب السابقين فالأمازيغ القدماء قدسوا الكبش واعتبروه رمزا لهم بل إلها عند بعضهم، ولهم طقوس ومعتقدات مختلفة حول هذا الحيوان، لها جذورها في موروثهم .
تاريخيا تعرضت العديد من العادات و الطقوس المغربية المورية الأصيلة لمحاولات الطمس أو الإقتلاع و التجريف تبعا لسياقات سياسية و دينية معينة ، في نهاية المطاف إستطاعت هذه العادات الصمود و الحفاظ على مكانتها في الوعي الجمعي المغربي وإستطعنا الإستماع لأشكال فنية لم تتغير إيقاعاتها و كلماتها منذ عشرات الآلاف من السنين ، هذا الموروث الذي تعايش مع جميع التحولات السياسية و الدينية التي عرفها المغرب طوال عشرات الآف من السنين و ظل صامدا في وجه العديد من التغيرات الإنثروبولوجية اليوم من الواجب على الفاعل المؤسساتي و المدني و الأكاديمي و الثقافي تثمينه و الإعتناء به و الدفع به كجزء من موروثنا الحضاري و تعزيز حضوره بإعتباره و جزء لا يتجزء من مكونات الوعي الجمعي للشعب المغربي العظيم .
في هذا الإطار فإن الدفع بمهرجان بيلماون إلى العالمية كتعبير فني فرجوي و كموروث ينوّع العرض السياحي في إطار تعزيز السياحة الثقافية و سياحة المهرجانات بإعتباره جزءا من الرأسمال الحضاري اللامادي للشعب المغربي بمختلف مكوناته يظل مطلبا آنيا وجب الإشتغال عليه بهدوء وفق مقاربة تتماشى مع التوجه الإستراتيجي للدولة المغربية الذي يرنو لتعزيز المشترك الجمعي بين المغاربة في إطار وحدة وطنية تعزز القيم المغربية العريقة في النسيج الثقافي.
سياحة المهرجانات أصبحت اليوم أحد أهم أنواع صناعة السياحة الرئيسية حيث تساهم بشكل كبير في زيادة النشاط السياحي في الوجهات السياحية وتجعلها على خريطة السياحة العالمية بشكل موسمي.
من المطلوب أن تحتل المهرجانات المهتمة بالثقافة الأمازيغية مكانة متميزة في الأحداث و الأجندات السياحية المغربية، حيث يمكن أن يحتل مهرجان أو كرنفال بيلماون للثقافة الأمازيغية مكانته الطبيعية كأحد أهم المهرجانات الثقافية في العالم و يشكل فرصة لإظهار الجانب الملحمي من تاريخ المغرب الأمازيغي و إرضاء للأذواق المختلفة للسائحين الوافدين من جميع أنحاء العالم من خلال العمل على تنويع فعالياته التي قد تشمل سهرات تركز على الأغاني الأمازيغية الشعبية والرقصات التقليدية كأحواش، أهياض ، تسكوين ، إسمكان ، تكروبيت ، تزنزارت ، الدقة الهوارية و الفنون اليدوية و معارض للصناعات التقليدية و المأكولات التقليدية الأمازيغية بالإضافة إلى تخصيص حيز هام للجانب العلمي و الأكاديمي بتنظيم ندوات و لقاءات ثقافية و مؤتمرات فكرية و هذا الطموح لن يتم تحقيقه إلا بإشراك الفاعل المؤسساتي و المجالس المنتخبة و المجتمع المدني الجاد و أصحاب المصلحة و القطاع الأكاديمي و القطاع الخاص و كل الفعاليات المهتمة بتنويع مفردات الجذب السياحي في بلادنا وتعزيز صناعة السياحة المحلية من أجل بلورة تصور يتناسب مع أهمية المهرجان و مدى تأثيره السيوسيو إقتصادي و الإجتماعي في محيطه القريب و البعيد .
مأسسة و إدماج هذا الموروث الثقافي والفني و الفرجوي في منظومة المشاريع التنموية الجهوية والوطنية و إعطاءه الأولوية أثناء تخطيط البرامج التنموية الثقافية في ظل الورش التنموي المفتوح الذي تعرفه جهة سوس ماسة اليوم بتعليمات ملكية سامية و الذي ينهل من مخرجات النموذج التنموي الجديد كإطار مرجعي لتحقيق التنمية الشاملة في المغرب من خلال ضمان المحافظة على الموروث الوطني والذاكرة الجماعية وتثمينهما وتعزيز إشعاع التاريخ والثقافة المغربية على المستوى الدولي هو ضرورة تنموية سسياهم لا محالة في دعم القطاع السياحي في الجهة و عاصمتها مما يدعم رؤية الدولة المغربية في جعلها قطبا سياحيا أطلسيا بمقاييس دولية فجهة سوس – ماسة على إعتبار موقعها الإستراتيجي في وسط البلاد كما أكد جلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطاب سابق : ” يجب أن تكون مركزا اقتصاديا ، يربط شمال المغرب بجنوبه، من طنجة شمالا، ووجدة شرقا، إلى أقاليمنا الصحراوية “..//.