غضب الشباب الفرنسيين يخفي مشكلات أعمق
لا تنحصر الاحتجاجات التي اجتاحت فرنسا لأيام في الغضب على مقتل الشاب نائل البالغ 17 عاما برصاص شرطي الثلاثاء الماضي، بل تتعداها إلى أكبر من ذلك وفق ما تؤكده شهادات حية لبعض المنتفضين.
ويقول أبناء أحياء شعبية في فرنسا إن مقتل الفتى نائل كان “الشرارة” التي أشعلت غضب الشباب وأيقظت مشاعر الاستياء والسأم جراء “مشكلات أعمق”.
ففي نانتير، غرب باريس، في شوارع حي بابلو بيكاسو الذي تقيم فيه عائلة الفتى، خلفت ليال من أعمال الشغب هياكل سيارات متفحمة وحاويات قمامة منصهرة وكتابات لا حصر لها على الجدران تطلب “العدالة لنائل”.
وأثار مقتل الشاب صدمة في فرنسا وصل صداها إلى الجزائر التي تتحدر منها عائلته. وتعدّ الجالية الجزائرية في فرنسا أكبر الجاليات الجزائرية في الخارج وذلك لأسباب تاريخية وجغرافية عدّة، منها الاحتلال الفرنسي للجزائر والذي استمر لأكثر من 130 عاما وانتهى بالثورة الجزائرية على الاحتلال. والعلاقة بين البلدين غير مستقرة حيث لا يزال الجزائريون يطالبون فرنسا باعتذار وتعويضات عن جرائمها الاستعمارية في حين حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرات عدة إقناع السلطات بحل ملف الذاكرة وتجاوز آلام الماضي.
مقتل الشاب نائل “الشرارة” التي أشعلت غضب الشباب وأيقظت مشاعر الاستياء والسأم جراء “مشكلات أعمق”
وشهدت مواقع التواصل موجة واسعة من التضامن مع أهل الشاب نائل، استنكر فيها روادها وخصوصا الجزائريين منهم استخدام الشرطة الفرنسية للعنف، بالشكل الذي أدى إلى مقتله.
واعتبر البعض أن احتجاجات الجاليات العربية تعتبر رد فعل عنيف على طريقة تعامل السلطات الفرنسية مع أبناء الجاليات، وعدم تطبيق العدالة في التعامل معهم. بينما رأى آخرون أن ما يحدث نتيجة طبيعة لاستقبال أعداد كبيرة من المهاجرين وعدم دمجهم في المجتمع، بل واعتبر بعضهم أن فرنسا تشرب من نفس الكأس الذي شربت منه تلك الدول التي استعمرتها سابقا، على حد وصفهم.
وقال محمد (39 عاما) “هناك شعور بالسأم وتراكم المشكلات وأجواء سبق وعشناها. بالطبع أفهم ذلك، لقد نشأت هنا أيضاً. لكن إضرام النيران في المدارس والمتاجر أمر غير مقبول لأنه يضرنا جميعاً”.
وأضاف الشاب الذي كان يجلس على مقعد في حديقة، إنه خرج من منزله عدة مرات لليال متتالية من أجل “تهدئة الشباب”.
وإلى جانبه، تنهد صديقه سفيان (38 عاما) مشيرا إلى هيكل لعبة أحصنة دوارة أضحت رمادا مساء الخميس.
وأكد “الأضرار، نحن لا نتسامح معها، ما لا نريده فعلا بعد الآن هو (ممارسة الشرطة) التدقيق في وقت متأخر. نريدهم أن يفتشونا كما لو كان اسمنا ميشال”، معربا عن “حزنه” لوفاة شاب صغير، أثناء تفتيش مروري.
فتيحة عبدوني (52 عاماً) التي تعيش في أحد الأبراج خلف الحديقة، خرجت هي الأخرى من منزلها مساء السبت لتلتقي بوجهاء الحي فيما كانت الأجواء توحي بليلة مضطربة.
وقالت المؤسسة المشاركة لجمعية “صوت النساء في بابلو بيكاسو” إنها “لا تقبل بأحداث تخريب وإضرام حرائق، ومن الذي يتغاضى عن ذلك؟ الآن علينا الاستماع إلى الشباب، إلى الاستياء والغضب المتعلقين بصعوبات الحياة اليومية، وعدم المساواة في الوصول إلى التعليم والعمل والسكن”.
ورأت أن من الواضح أن وفاة نائل كانت “شرارة” أيقظت “مشكلات أعمق”.
وأججت وفاة الشاب، وهو من أصل جزائري – مغربي، شكاوى قديمة من أصحاب الدخل المنخفض والأعراق المختلطة والمنظمات الحقوقية بأن الشرطة الفرنسية تمارس العنف والعنصرية الممنهجة داخل أجهزة إنفاذ القانون، وهو ما تنفيه السلطات.
ومنذ الثلاثاء، نفذ أعمال الشغب “فتيان” ضمن مجموعات صغيرة وشاركوا تصرفاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي: وبلغ متوسط أعمار الموقوفين ليل الخميس إلى الجمعة 17 عاما، بحسب وزير الداخلية جيرالد دارمانان.
والسبت، اعتبر وزير العدل إريك دوبون – موريتي أنه يتعين “الطلب من الأهل أن يوقفوا أولادهم” عما يفعلونه.
ورد محمد مشماش بقوله “لا نحل الأمور بتحميل الوالدين المسؤولية”. ومحمد منسق في إحدى الجمعيات التي تأسست في ضاحية كليشي سو بوا الباريسية غداة أعمال الشغب التي اندلعت في هذه المدينة عام 2005، بعد مقتل مراهقين هربا من ملاحقة الشرطة.
وقال “حان الوقت للتحدث علنا مع هؤلاء الشباب وإخبارهم بأنهم جزء من هذه الجمهورية”.
احتجاجات الجاليات العربية تعتبر رد فعل عنيف على طريقة تعامل السلطات الفرنسية مع أبناء الجاليات، وعدم تطبيق العدالة في التعامل معهم
واعتبرت فاطمة واساك، وهي محللة سياسية والمؤسسة المشاركة لجمعية الأمهات، وهو اتحاد لأولياء أمور الطلاب من أحياء الطبقة العاملة، أن “الأمر الأكثر أهمية هو منح الأمل لأولادنا، وأن يؤمنوا بمستقبلهم. أخشى حدوث وفاة أخرى”.
وفي حي بابلو بيكاسو، لم يرغب أيّ من الشباب الذين التقتهم وكالة فرانس برس في التحدث.
وخلال مسيرة بيضاء لتأبين نائل الخميس، قال فتى (16 عاماً) “دائمًا ما يتمّ استهداف الأشخاص أنفسهم، السود والعرب، وأحياء الطبقة العاملة. يُقتل فتى يبلغ 17 عاما، هكذا، لا لشيء، هذه الوفاة تثير الكراهية”.
وبعد خمس ليال من أعمال الشغب، وجهت نادية، جدة نائل، الأحد نداء إلى مثيري الشغب “ليتوقفوا عن تحطيم الواجهات وتخريب المدارس والحافلات”.
ويشعر محمد وسفيان بالسعادة بالعودة نسبيا إلى الهدوء، ويأملان أن “تتحقق العدالة.. هذا الشرطي هو إنسان، يجب مقاضاته مثلك ومثلي. العدالة ليس لها وجهان”.
ومنح الهدوء النسبي الذي أعقب خمس ليال من أعمال الشغب الصاخبة حكومة إيمانويل ماكرون فرصة لالتقاط الأنفاس في معركتها لاستعادة السيطرة على الوضع، بعد أشهر قليلة من احتجاجات واسعة النطاق على تعديلات لم تحظ بشعبية في نظام التقاعد وقبل عام من استضافة الألعاب الأولمبية.