السياسة الخارجية الجزائرية أساس العطب الإقليمي
كان أول القرارات التي اتخذها النظام العسكرتاري في “جمهورية ما بعد الحراك” هو تعيين صبري بوقادوم في منصب وزير الخارجية لضبط أجهزة الدبلوماسية الجزائرية وأمننتها وفق مخطط لجعلها جهازا تابعا للجيش منفذا لمخططاته الإقليمية، بدل وضعها السابق كساحة للتنافس بين القوى المتصارعة داخل مربع الحكم، حيث تم استدعاء صبري بوقادوم كأحد العناصر الأكثر ارتباطا بالنظام العسكرتاري في الجزائر لوضع خارطة طريق تضمن عودة الجزائر من باب الدبلوماسية لكي تلعب أدوارا إستراتيجية في محيطها بإعادة ترتيب الأوراق الإقليمية بما يتناسب وطموحاتها البومدينية، خطط صبري بوقادوم لإعادة الدبلوماسية إلى مسارها الصحيح، واصطدم بالسلوك الانفعالي للنظام الجزائري الذي أفقده ثقة الشركاء الإقليميين، وكل محاولات التدخل في الملفات الإقليمية كانت فاشلة أو غير ذات جدوى، فالجزائر سابقا وحاليا لا تمتلك آليات إستراتيجية ناجعة لحلحلة الأزمة الليبية بسبب حالة العزلة الدبلوماسية التي تعيشها مع دول الجوار، وبشكل خاص مع مصر بسبب التهديد بفرض خط أمني جزائري وهمي في ليبيا الذي يقابل الخط الأحمر المصري (سرت – الجفرة) وإعلان الرئيس الجزائري رفض اقتراب القوات المتحاربة من العاصمة طرابلس أو تعرضها للخطر وعزمه على التدخل العسكري لمنع سقوط طرابلس في يد قوات حفتر كمؤشر على أطماع جزائرية واضحة فوق التراب الليبي، ثم التقارب الإثيوبي – الجزائري حول ملف سد النهضة، وكذلك في جمهورية النيجر التي عرفت تدخلا جزائريا في انتخاباتها، وتشاد التي تعيش مرحلة انتقالية بعد مقتل رئيسها إدريس ديبي على يد ميليشيات جبهة التغيير والوفاق في تشاد القريبة من ميليشيات عسكرية لديها مصالح مع الجزائر في ليبيا، ورفض الجنرال محمد كاكا رئيس المجلس الانتقالي لأي وساطة دولية، خاصة الوساطة الجزائرية، وفي دولة مالي التي تعيش هي الأخرى مرحلة انتقالية بعد انقلاب الكولونيل أسيمي غويتا وجنوحه للحفاظ على استقلال القرار السيادي المالي عن الجزائر باستقدام قوات من أطراف دولية خاصة واستعانته بشركات أمنية روسية لتدريب قواته بعد انسحاب القوات الفرنسية.
◙ المغرب استطاع وضع تصور جديد لعلاقة العالم بالأقاليم الجنوبية عن طريق نهج “دبلوماسية القنصليات” التي وفرت التغطية السياسية للمقاربة المغربية الشاملة في التعاطي مع ملف الوحدة الترابية
في ملف الصحراء المغربية وهو الملف الأكثر أهمية لدى النظام العسكرتاري في الجزائر العاصمة، فمحاولة النظام الجزائري تسخين جبهات الصراع وإدخال المغرب في صراع إقليمي كان مآلها الفشل الذريع إزاء النجاح الكبير الذي حققه المغرب في ملف الوحدة الترابية ميدانيا بتأمين معبر الكركرات الحدودي الدولي وطرد ميليشيا بوليساريو الأرهابية من المنطقة العازلة شرق الجدار الأمني، حيث تم ضبط الأمن الإقليمي وفق معادلة جيوسياسية دقيقة واضحة المعالم عنوانها الأبرز “السيادة المغربية خط أحمر”.
دبلوماسيا استطاع المغرب وضع تصور جديد لعلاقة العالم بالأقاليم الجنوبية عن طريق نهج “دبلوماسية القنصليات” التي وفرت التغطية السياسية للمقاربة المغربية الشاملة في التعاطي مع ملف الوحدة الترابية.
دبلوماسية المفرقعات الجزائرية هاته استمرت بشكل أكثر تركيزا مع التغيير الذي عرفته هياكل وزارة الخارجية على يد الجنرالات بعد تولي عبدالمجيد تبون، حيث تم استبعاد صبري بوقادوم رجل ثقة عبدالمجبد تبون بضغط من جنرالات الجيش واستدعاء رمطان لعمامرة لتولي حقيبة الخارجية لخلق توازن داخل مربع الحكم ولإبعادها عن وصاية الجناح المدني في قصر المرادية بقيادة عبدالمجيد تبون ومقربيه لصالح دوائر عسكرية مقربة للجنرال السعيد شنقريحة.
لكن الرياح الدبلوماسية الإقليمية والدولية تسير بما لا تشتهي سفن جنرالات النظام الجزائري، حيث حصدت الدبلوماسية الجزائرية هزائم ميدانية متتالية في العديد من الملفات الإقليمية سواء في تدبير الأزمة المفتعلة مع إسبانيا أو الأزمة مع الفرنسيين أو مع الاتحاد الأوروبي بشكل شمولي، بالإضافة إلى حالة التخبط التي تعرفها الدبلوماسية الجزائرية في مواقفها من الملف الليبي وباقي الملفات ، فقد اعتمد النظام الجزائري في الآونة الآخيرة على تسويق “مفرقعات دبلوماسية” على شكل انتصارات دبلوماسية سواء مشاركة ميليشيا بوليساريو في قمة تيكاد 8 بتونس أو علاقات المصالح مع إيطاليا أو التسويق لاتفاقات وهمية مع البرتغال أو التطبيل لقرار حجز مقعد عضو غير دائم في مجلس الأمن لسنتين كأنه انتصار سياسي “على محاولات قوى إقليمية عزل الجزائر”، حسب تصريحات من داخل النظام.
وضعية الهذيان الدبلوماسي التي تعاني منها الخارجية الجزائرية فرضت على صانع القرار في قصر المرادية إجراء تعديلات في الجهاز البيروقراطي لوزارة الخارجية، باستدعاء أحد وجوه العشرية السوداء الوزير السابق في الشؤون الخارجية في تسعينات القرن الماضي أحمد عطاف في منصب الوزير الوصي على القطاع بدل رمطان لعمامرة، مع العمل على تفكيك شبكة لعمامرة في وزارة الخارجية بإبعاد عمر بلاني المسؤول الأول عن ملف بوليساريو في الخارجية، والأمين العام السابق لوزارة الخارجية في منصب سفير للجزائر في أنقرة، والإعداد لإعادة انتشار واسعة للعناصر البشرية في وزارية الخارجية.
وجود أحمد عطاف في منصب وزير الخارجية ينبئ بتصلب أكثر في المواقف الخارجية للجزائر ولعلاقاتها الدولية مع دول الجوار، فالرجل بقدراته التفاوضية المتواضعة وفهمه الأمني الصرف للإشكالات الإقليمية قد تكون له نتائج وخيمة على ردود الأفعال المرتقبة للنظام الجزائري في العديد من القضايا الإقليمية والدولية.
لقد كانت لجائحة كورونا تداعيات مدمرة على الاقتصاد العالمي، وانعكست تأثيرات الحرب الأوكرانية على التوازنات الدولية. كما أن طبيعة الأحداث الإقليمية المتسارعة ومتقاطعة المصالح بين مختلف القوى الفاعلة في فضاء جغرافي يعرف العديد من المخاطر وفي الوقت الذي ينتظر فيه العالم حلولا نابعة من القوى الإقليمية للإشكالات الإقليمية كما هو حال التوجهات الدبلوماسية المغربية التي تسعى من خلال سياسة دبلوماسية واضحة التوجهات إلى تأسيس مناخ سياسي مساعد لحل الأزمة الليبية بعيدا عن المقاربات النمطية لبعض دول المنطقة، نجد أن الدبلوماسية الجزائرية لا تزال تتناول الإشكالات الإقليمية بمقاربة كلاسيكية وتحدد طبيعة تفاعلها على أساس تقدير موقف متجاوز لا يتناسب مع الجهود المفروض وجودها لصياغة رؤية إستراتيجية مناسبة تجاه التفاعلات والسلوكيات الإقليمية، وبشكل خاص عند إعادة توجيه وتشكيل الدبلوماسية الجزائرية في تحركاتها تجاه محيطها الخارجي في علاقته مع المتغيرات الكبرى التي عرفها المشهد الجيوسياسي العالمي.
ارتهان الدبلوماسية الجزائرية لرغبات صانع القرار العسكرتاري بفهمه الأمني الضيق لطبيعة التفاعلات الإقليمية في غياب تأسيس فهم دبلوماسي للإشكالات، يجعلها جزءا من العطب الإقليمي وأحد محركات الصراع في المنطقة، بدل أن تكون باعتبار حالة الاستقرار النسبية التي يعيشها النظام الجزائري أحد صمامات الأمان الإقليمية.
انخراط الجزائر في سياسات تسليحية مستغلة مداخيل الغاز والنفط المليارية لدفع المنطقة إلى سباق تسلح إقليمي على حساب جهود التنمية يعد من أهم العوامل التي تؤثر على الأمن الإقليمي والاستقرار الجهوي، بالإضافة إلى تأثيره على جهود التنمية المستدامة في المنطقة، حيث إن الميزانيات المخصصة لتطوير القدرات الهجومية والدفاعية وشراء التكنولوجيات العسكرية تدفع دول المنطقة إلى تخصيص موارد كبيرة للإنفاق العسكري على حساب الاستثمار في القطاعات الحيوية الأخرى مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، مما يعوق جهود التنمية في المنطقة ويؤدي إلى تفاقم الفقر والبطالة وغيرها من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
◙ ارتهان الدبلوماسية الجزائرية لرغبات صانع القرار العسكرتاري بفهمه الأمني الضيق لطبيعة التفاعلات الإقليمية، يجعلها جزءا من العطب الإقليمي وأحد محركات الصراع في المنطقة
كما أن جنوح النظام الجزائري إلى تعطيل الاتحاد المغربي كفضاء مغاربي يعزز التعاون والحوار بين دول المنطقة في إطار المشتركات الممكنة، ويساعد على حل النزاعات والإشكالات الإقليمية المشتركة والعمل المستمر على دعم الحركات الإرهابية والجماعات الانفصالية المسلحة وتوفير كل الآليات والميكانيزمات لها من أجل تفجير الوضع الأمني وإدخال الإقليم في حرب مدمرة والتدخل السلبي في الشؤون الداخلية لدول الجوار كليبيا وتونس ومالي والنيجر وموريطانيا، والعمل على فتح جبهات دبلوماسية استعراضية والدخول في معارك سياسية إقليمية مجانية يغيب عنها المنطق السياسي السليم، يجعل من السلوك الدبلوماسي الجزائري جزءا أساسيا، بل أساس العطب الإقليمي، لهذا يلاحظ أن العقل الدبلوماسي والسياسي الجزائري غير قادر على فهم مفاتيح الحركة الإقليمية ومداخل المصالح المشتركة وإنتاج رؤية دبلوماسية تساعده على تكوين علاقات دولية ناجحة، فكما هو معروف الاقتصاد والتجارة والاستثمار المستدام والدبلوماسية متعددة الأطراف والشراكات الإستراتيجية مع دول الجوار الجغرافي ودول ما بعد الدائرة المقربة، هي معززات لوضع حجر الأساس لاستقرار الجزائر ومعها التفاعلات الإقليمية.
استقدام أحمد عطاف من دولاب العشرية السوداء كأحد الوجوه الفاعلة في أحداثها المؤلمة دليل على أن هذا النظام العسكرتاري الشمولي غير قادر على التعاطي بشكل إيجابي مع الإشكالات المطروحة ونزوحه إلى التفكير بمنطق ماضوي يفضي إلى أعادة إنتاج نفسه، الدبلوماسية الجزائرية اليوم في حاجة إلى رجل دولة بروح سياسية متمكنة؛ رجل متوافق عليه داخليا من جميع الأطراف الفاعلة في مربع الحكم، بشخصية تمتلك خبرات دولية ومعرفة سياسية وقدرات تفاوضية ومساحات حيادية كافية داخل التفاعلات الداخلية تسمح له بالتحرك بين قوى كبرى متنازعة باستمرار داخل النظام، إعادة إحياء الدور السياسي لأحمد عطاف في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الجزائر دليل على إصرار النظام الشمولي على المضي بعيدا في معاكسة رغبات شعوب المنطقة في الاستقرار والسلام، وتأكيد على الفهم الضيق لصانع القرار الجزائري في اختيار طبيعة الشخصيات المدركة لخطورة التفاعلات المستقبلية المساعدة لإدارة أزمات المنطقة. رحم الله الحكيم عبدالحميد مهري الذي قال بالحرف “نحن في زمن الرداءة وللرداءة أهلها”.