هناك اعتقاد راسخ أن الانتخابات العامة المرتقبة في 23 يوليو المقبل في إسبانيا ستشكل علامة فارقة في العلاقات مع المغرب، فالإعلام وعدد من الشخصيات السياسية والأمنية يستعملون أوراق الضغط والتشويش مستغلين قضية سبتة ومليلية المحتلتين لتسويق فكرة أن حزب العمال فشل في تدبير مفاوضاته مع المغرب لإنهاء الأزمة التي تسبّب بها استقبال زعيم بوليساريو، وأنهم سيعملون على إعادة تقييم العلاقات مع الرباط وربما تغيير بنود خارطة الطريق، وهذا في رأينا خطاب انتخابي شعبوي هدفه دغدغة مشاعر الناخب الإسباني لا غير.
الاستعمال المُفرط لموضوع المدينتين من طرف الإعلام والأحزاب الإسبانية في البرامج الانتخابية، هو دليل آخر على رغبة هؤلاء في تشتيت انتباه الرأي العام المحلي عما حققته حكومة بيدرو سانشيز بعد تصالحها مع المملكة، وهو ما يبرره توظيف صورة غير حقيقية حول الاتفاق على خارطة طريق جديدة في العلاقات الثنائية، والذي يُشكل قيمة مضافة دائمة وموثوقة في إطار علاقات الجوار المبنية على الاحترام والاعتراف بالتوازنات الجديدة ضمن معادلات دولية غاية في التعقيد.
◙ التقارب بين البلدين لا يعني أن المغرب قد قايض الدعم الإسباني لسيادته على الصحراء من أجل إنهاء مطالبه طويلة الأمد بشأن سبتة ومليلية
الحقيقة التي تعرفها الدولة الإسبانية منذ أمد بعيد، أن المغرب حريص على استعادة المدينتين دون التخلي عن علاقات جيدة مع الطرف الإسباني، فقد كانت القمة الثنائية بين البلدين لإنهاء الأزمة وبناء خارطة طريق جديدة، مناسبة للاتفاق على استكمال المفاوضات حول القضايا الشائكة من بينها المدينتان، وأولها المعابر الجمركية، الشيء الذي وظفته أحزاب معارضة سياسيا واعتبرته بمثابة تنازل حكومة سانشيز عن المدينتين. فمنذ الاتفاق الثنائي أعلن الطرفان عن إعادة فتح مكتب جمارك مليلية في العام 2023. وخطة إنشاء مكتب جمركي في سبتة، بمثابة خطوة وصفتها حكومة مدريد بالهامة، لأنها تستلزم أن تعترف الرباط على الأقل بوجود حدود تجارية بين الطرفين.
وحسبما ذكره عدد من المتابعين للشأن الإسباني، فالتقارب بين البلدين لا يعني أن المغرب قد استبدل الدعم الإسباني لموقفه بشأن الصحراء المغربية من أجل إنهاء مطالباته طويلة الأمد بشأن سبتة ومليلية، وهو بالتأكيد لا يضمن ذلك، في حالة تصاعد التوترات بين الطرفين. ومرة أخرى، فإن قضية سبتة ومليلية لن تكون في صميم النزاع، فالمغرب يشكل بوابة للعمق الأفريقي وللأسواق الأفريقية أمام المنتجات الإسبانية، ويوفر فرصا للاستثمارات الإسبانية، وهو شريك إستراتيجي لأوروبا في محاربة الهجرة والإرهاب الدولي والجريمة المنظمة.
يستند المغرب إلى الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الدبلوماسية التي تقر بأن سبتة ومليلية أراض داخل المملكة، وهي من بقايا الاستعمار ويجب إعادتها، لكنه يقارب هذا الموضوع بهدوء وروية ودبلوماسية رصينة، بشهادة مسؤولين إسبان منهم إيزابيل رودريغيز وزيرة السياسة الترابية الإسبانية الناطقة الرسمية باسم حكومة سانشيز التي قالت إن المغرب لا “يُعرقل” فتح المعابر الجمركية عبر معبري سبتة ومليلية، مؤكدة أن المفاوضات والتنسيق الثنائي بين الطرفين لفتح المعبرين يجريان بشكل جيد وأن هناك “تقدما يتم إحرازه” في هذا المجال.
نظرا إلى موقعهما الجغرافي الإستراتيجي وطبيعتهما التاريخية وما تمثلانه في التاريخ الدبلوماسي للمنطقة، هناك أصوات داخل بعض مؤسسات الاتحاد الأوروبي تثير موضوع المدينتين للضغط والابتزاز السياسي والتشويش بين الفينة والأخرى، ففي حديثها إلى موقع “انفستمنت مونيتور” حول الوضع الحالي للمدن، أوضحت لورينا ستيلا مارتيني مساعدة الاتصال في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن “وضع سبتة ومليلية يمثل حافزًا محتملاً لمزيد من المواجهات الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا، بعد فترة من التوترات الأخيرة، أعادت مدريد والرباط تعزيز العلاقات بينهما إثر الإعلان الإسباني عن دعم خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء”.
حقيقة الأمر، ونتيجة لتأثير أحزاب اليمين المتطرف اعتبر البرلمان الأوروبي قبل سنتين حدود سبتة ومليلية المحتلتين حدودا لأوروبا مع أفريقيا، وها هي نفس الجهات بالإضافة إلى منظمات أخرى تتحرك في هذه الفترة الانتخابية للنفخ في هذا الموضوع طمعا في أصوات اليمين المتطرف، واستغلال أي نقطة لصالحها، منها ضغط الإعلام وعدد من الجمعيات على شركة غوغل لحذف مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من قائمة “المناطق ذات الحدود المتقطعة”، كباقي المناطق الأخرى بالعالم التي تعرف نزاعات على ملكيتها. فإلى جانب صحف “إل إسبانيول” و”إل ديبايت” و”سيتا أكتيوليتاد” وغيرها من المواقع الإعلامية، وجه ما يسمى بـ”مرصد سبتة ومليلية” رسالة إلى المدير العام لفرع غوغل بإسبانيا ندد من خلالها بتشكيك العملاق الأميركي في إسبانية المدينتين.
◙ الاستعمال المُفرط لموضوع المدينتين من طرف الإعلام والأحزاب الإسبانية في البرامج الانتخابية، هو دليل آخر على رغبة هؤلاء في تشتيت انتباه الرأي العام المحلي عما حققته حكومة بيدرو سانشيز بعد تصالحها مع المملكة
حتى مع صعود حكومة جديدة بقيادة الحزب الشعبي الذي تحصل على نتائج جيدة في الانتخابات الجهوية والبلدية، لن يتغير الكثير في خارطة الطريق التي تم توقيعها مع المغرب. والتطرق إلى مدينتي سبتة ومليلية مجرد طبق انتخابي بملح زائد لا يغري بتذوقه على المدى البعيد.
لن يستطيع الحزب الشعبي التراجع عما أعلنته حكومة يقودها حزب العمال في مارس من سنة 2022 بدعمها لمبادرة الحكم الذاتي لحل نزاع الصحراء تحت السيادة المغربية، رغم أن مواقف الحزب الشعبي الحالية تبدو معارضة لهذه الخطوة التي أقدم عليها سانشيز، بدعوى أنها تسببت في خلق أزمة مع الجزائر، ولا نظن أن الحزب الشعبي المعارض لتوجه هذه الحكومة في ما يتعلق بالصحراء ومعابر سبتة ومليلية وغيرها من القضايا الهامة كمحاربة الإرهاب والهجرة، ستكون لديه الجرأة السياسية والنفس الطويل لتجريب تداعيات أزمة دبلوماسية جديدة بين البلدين.
العديد من المؤسسات الإسبانية والسياسيين لم يستوعبوا بعد الطريقة التي دبر بها المغرب أزمته مع حكومة سانشيز، ونجاحه في إخضاع هذه العلاقة لمنطق الندية والسيادة والموضوعية، وهو ما جعل سانشيز وحكومته يعترفان بسيادة المغرب على صحرائه. تلك الجهات التي تفتح ملف سبتة ومليلية سواء على المستوى المحلي أو الأوروبي أو العالمي، تريد إعادة عقارب الساعة إلى نقطة البداية وهذا غير ممكن، فالعقلية الكولونيالية لا زالت تسيطر على البعض هناك، ونتذكر هنا الضغط الذي مارسته سلطات المدينتين على حكومة مدريد لرفع المنع عندما تم إقفال نقطة التماس مع الفنيدق شمال المغرب، ومنع التهريب المعيشي وكانت نتيجته إفلاس العديد من الشركات الإسبانية بالمدينتين المحتلتين سنة 2019.
نختم بالقول إن التقارب بين البلدين لا يعني أن المغرب قد قايض الدعم الإسباني لسيادته على الصحراء من أجل إنهاء مطالبه طويلة الأمد بشأن سبتة ومليلية، وهو ما يعني أن هناك من لا يريد الإقرار بهذا الواقع سواء داخل إسبانيا أو خارجها، وسيعمل على إثارة هذا الموضوع في كل مرة لتصعيد التوترات بين البلدين.