بكالوريا الجزائر بمعدل تزوير عشرين على عشرين
يحصل هذا كل سنة، منذ سنوات عديدة. قطع الإنترنت لمدة أيام امتحان البكالوريا. بعد انتشار فاحشة التزوير في هذا الامتحان المهم في الجزائر، الذي تحول مع الوقت إلى بارومتر لقياس الحالة الأخلاقية والسياسية للأمة، كما عشنا أحد فصولها في عام 1992عندما استعمل هذا الامتحان وسيلة حرب سياسية بين العصب المنقسمة ثقافيا ولغويا، المتمترسة داخل المدرسة، كانت نتيجتها الإطاحة بوزير التربية في تلك الفترة. وكادت أن تؤدي إلى فوضى سياسية عارمة، خلال تلك المرحلة المضطربة أصلا، بعد إلغاء الانتخابات التشريعية وتعيين مجلس الدولة الذي اغتيل رئيسه لاحقا.
قطع الإنترنت طول مدة الامتحان عن الكل، التي تؤكد عدة حقائق سياسية مهمة، منها أن حكاية الرقمنة في المجالين الاقتصادي والخدماتي، التي تنادي بها الحكومة، ما زالت حلما بعيد المنال، لم يتحقق بعد، كما تؤكد أن النظام السياسي في الجزائر، ما زال بعيدا عن الاهتمام بمصالح الجزائريين ومراعاتها، عند اتخاذ قراراته مهما كانت. كما يبين بشكل جلي قرار قطع الإنترنت عن كل الأمة، بحجة إمكانية أن يحصل تزوير في امتحان البكالوريا، كما أصبح سائدا، بل مقبولا من قبل جزء كبير من التلاميذ ومحيطهم الاجتماعي القريب، على غرار الأولياء الذين يساعدونهم بشتى الطرق في هذه الممارسة التي لم تعد مستهجنة، عند جزء مهم من الجزائريين.
ممارسة اختارت الدولة محاربتها بعزل البلد عن العالم، كل سنة لمدة أسبوع، بدل البحث عن حلول أكثر جدية واستدامة لها، تقوم من خلالها باستدعاء المستويات الأخلاقية لدى الفرد والأولياء الجزائريين، بدل التركيز على الأبعاد التقنية والقانونية الردعية، التي تبين أنها حلول ناقصة وغير عملية على المدى الطويل، بالنظر إلى نتائجها الكارثية على سمعة البلد واقتصاده الذي يفترض أن يكون في المستقبل، لنكون بذلك أمام أحد المستويات المهمة في تحليل ظاهرة الغش الحاضرة بقوة في الجزائر، التي يمكن رصدها من داخل العائلة وهي تقوم بمساعدة أبنائها في توفير وشراء أجهزة الغش لهم، وهم على أبواب أي امتحان مهم. غش في الامتحان يتعامل معه الجزائري كجزء من غش عام يسود المجتمع على مختلف الأصعدة، يتهادن معه ولا يرى فيه حرجا كبيرا، بل يتعامل معه كشطارة «قفازة» كما يعبر عنه بلغته الدارجة.. شطارة، تعد من أساسيات التنشئة الاجتماعية داخل العائلة الجزائرية، التي تحث عليها أبنائها وبناتها في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها بالطبع مجال التعليم الذي تركز فيه العائلة الجزائرية على النتائج بشكل شبه مرضي، بعد أن اقتنعت بأن المهم هو «النجاح»، من دون أن تتساءل كثيرا عن طرق الوصول إليه. كما يحصل أمامنا ونحن نرى أن العائلة نفسها لا تكترث كثيرا بالسؤال عن مصادر أموال بناتها وابنائها المفاجئ والسريع، في مجتمع ظهر فيه الكثير من الأغنياء الجدد، الذين لا يتورعون عن استعراض غناهم الفاحش الذي يتكلم عنه الجميع، من دون أن يثير الكثير من الحرج لدى أصحابه ومحيطهم الاجتماعي البعيد والقريب، خاصة إذا تأكدت استفادتهم منه. عائلة تنشر بين أبنائها ثقافة التشكيك في مقاييس النجاح وعدم الثقة فيها، لنزع أي مصداقية عنها اجتماعيا وتعميم منطق كلنا غشاشون. تكون عادة البوابة لدخول عالم اللامعيارية السائد وطنيا. ليتساوى الجميع أمام الغش والفساد، المؤدي إلى النجاح.. لأننا كلنا أبناء تسعة أشهر، لا إمكانية فيه لقبول ابن العشرة أشهر، مهما كان، هذا بالنسبة لمؤسسة العائلة. الحال لا يختلف بشكل نوعي داخل المدرسة، التي لا تركز كثيرا على قيم التنافس بين طلابها ولا تحث عليها كقيمة أخلاقية مركزية، كما هو حاصل في البلدان التي بنت منظومة تعليمية ناجحة وفعالة كانت إحدى وسائل التغيير المجتمعي المهمة تاريخيا بالقدر نفسه الذي تركز فيه على تحقيق النتائج، حتى ونحن نعاين كيف بدأ الكثير من الأوساط الاجتماعية الفقيرة في فك ارتباطها بهذه المدرسة، التي لم تعد مصعدا اجتماعيا مضمونا لأبنائها. في وقت توجه فيه أبناء الأغنياء والميسورين نحو الخارج لتعليم أبنائهم وبناتهم، بهدف تحقيق المزيد من السيطرة الاقتصادية -والاجتماعية وإعادة إنتاجها على مستوى الأجيال الصغيرة، في مجتمع كثير التجانس الاجتماعي تاريخيا، نتيجة خصوصية تاريخيه، ما زال يرفض بأشكال مختلفة، عنيفة في بعض الأحيان، مظاهر بروز التمايز بين أفراده وفئاته الاجتماعية، يبقى دائم التشكيك فيها..
مدرسة ما زلت أتذكر، كيف كنا نتنمر فيها – الكلمة خفيفة ولا تفي بالغرض – على زملائنا المجتهدين في القسم، الحاضرين بقوة في الإجابة على أسئلة المعلمة. في هذا الوسط الشعبي العاصمي، الذي أنجزت فيه تعليمي الابتدائي. مدرسة لا يشعر التلميذ الغشاش داخلها بأي حرج وهو يغش أمام الملأ. ليبقى المهم الإفلات من عيون المعلم الذي يمكن أن يصل الأمر الى الاعتداء عليه، إذا حاول ان يشغل ضميره، الغائب الأكبر عند جزء مهم من التلاميذ والأولياء وحتى المعلمين المغلوبين على أمرهم، نتيجة ظروفهم الاجتماعية المتدهورة – ليست حجة بالطبع – الذين تعودوا على التساؤل على مهنة ولي أمر التلميذ، قبل أي سؤال آخر، في أول درس، تنطلق فيه السنة الدراسية. مدرسة يجب التفكير في إصلاحها جديا، بدل قطع الإنترنت على الجزائريين، بعد أن تعطل هذا الإصلاح لعقود، كان فيها الوضع الاقتصادي يسمح بذلك، بعد عودة الاستقرار الأمني والسياسي في البلد. في ظل ظهور طلب اجتماعي واضح، عبّر عنه الكثير من القوى الاجتماعية العصرية، لم يتعامل معه النظام السياسي بشكل إيجابي، نظرا للكلفة السياسية لهذا النوع من الإصلاح الجدي المطلوب دفعها من قبل نظام يفضل على العكس، الكلام عن إصلاحات وهمية، غير قابلة للقياس والتحقيق على أرض الواقع. ينساها بعد وقت قصير من إطلاقها، كما تم الأمر مع وعد عدم تكرار قطع الإنترنت على الجزائريين، السنة الماضية.