النشيد الوطني بين الجزائر وفرنسا
لعلها دوافع متعددة متشعبة، داخلية وخارجية، تلك التي حدت بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى إصدار مرسوم رئاسي يحدّد ظروف وشروط أداء النشيد الوطني الجزائري، ويعدّل بالتالي ما كان يقضي به مرسوم 1986 حول «الأداء الكامل أو الجزئي» للنشيد؛ الأمر الذي بات يُلزم بإدراج الفقرة الثالثة الإشكالية، التي تقول: «يا فرنسا قد مضى وقت العتاب/ وطويناه كما يُطوى الكتاب/ يا فرنسا إن ذا يوم الحساب/ فاستعدّي وخذي منّا الجواب/ إنّ في ثورتنا فصل الخطاب/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر/ فاشهدوا».
معروف، إلى هذا، أنّ ثلاثة من رؤساء الجزائر السابقين، الشاذلي بن جديد واليمين زروال وعبد العزيز بوتفليقة، تناوبوا على حذف هذه الفقرة الثالثة أو الإبقاء عليها أو تضييق المناسبات التي يتوجب أن تؤدّى خلالها، وتبون يصبح اليوم رابعهم؛ في غمرة إصرار من رجالات جبهة التحرير الجزائرية على التمسك بها، ضمن نشيد كتبه الشاعر الجزائري الوطني مفدي زكريا من زنزانته تحت الاستعمار الفرنسي، ولحّنه الموسيقار والمطرب المصري محمد فوزي هدية إلى ثورة الجزائر، واعتُمد رسمياً كنشيد وطني في سنة 1962. ولم يكن غريباً، بل لعله بدا صحياً ومطلوباً، أن يعترض على إدراج الفقرة جزائريون وطنيون لا يُشكّ في إخلاصهم ونضالاتهم، لسبب جوهري أوّل يقول إنّ هذا النشيد هو الأوحد على نطاق العالم الذي يذكر دولة أجنبية في كلماته.
وإذْ يدع المرء دوافع تبون في ذمّة التاريخ، وما سيتكشّف من حقائق وملابسات تخصّ صلات المرسوم الرئاسي بكيمياء الودّ المعلَن/ البغضاء المضمرة التي تجمع الرؤساء الجزائريين بنظرائهم الفرنسيين، والفرنسي الحالي إمانويل ماكرون ليس استثناء بل على رأس اللائحة؛ فإنّ ما يلفت في ردود الأفعال على إعادة إحياء الفقرة الثالثة هو «العتب» الفرنسي الرسمي، والسخط والغضب والإباء والاحتجاج لدى أهل اليمين المتشدد أو حتى بعض ممثّلي ما تبقى من يمين ديغولي في فرنسا. التعليق الألطف، حتى الساعة على الأقلّ، جاء من وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، التي اعتبرت أنّ الفقرة المستعادة تمتّ إلى ماضٍ انقضى، وهي مخالِفة للزمن الذي يشهد تلمّس آفاق أفضل في العلاقات الجزائرية – الفرنسية.
طريف، مع ذلك، أنها أقرّت بما ينطوي عليه النشيد الوطني الفرنسي من معانٍ «حربجية»، وعفّت بالتالي عن إقرارٍ آخر رديف يقول إنّ «المارسييز» الشهير يتضمن عبارات عنيفة ودموية وخشنة تجعل منه أنشودة حرب وتعطّش للدماء والثأر، وليس نشيداً وطنياً لأمّة تزعم أنها بلد الأنوار والتسامح وحقوق الإنسان. تلك، في كلّ حال، كانت دعوة أطلقها الفنان والمغنّي والمؤلف الموسيقي الفرنسي أنطوان كابيلا، الذي حاول انتهاز فرصة حلول الألفية الثالثة لكي يدشّن حملة المطالبة بتعديل تلك الجمل والعبارات التي تخدش حياء الراشدين، ولا يصحّ أن يشدو بها الأطفال في المدارس. وكان الرجل يدرك أنّ اللحن أكثر قداسة (وعراقة، وتجذراً، وجمالاً في الواقع!) من أن يجاهر بتعديله أو اجتثاث بعض أجزائه من ذاكرة الفرنسيين، شيباً وشباباً؛ كما كان يعرف أنّ قلّة قليلة من الفرنسيين هي وحدها التي ما تزال تردّد النشيد كنصّ وقصيدة، وأنّ قوّة «المارسييز» كانت وتظلّ كامنة في اللحن الموسيقي ذاته.
وهكذا طالب كابيلا بتعديل الفقرة التي تحثّ على حمل السلاح ضدّ «الغزاة الأجانب المتوحشين» الساعين إلى «جزّ رقاب أبنائنا ونسائنا»، وتدعو الجنود الفرنسيين الثوريين إلى «إغراق الخنادق» بـ «الدماء النجسة» للغزاة. حجّته أنّ هذه الفقرة لا تحرّض على العنف الأقصى فحسب، بل هي تتضمّن تلميحات عنصرية أيضاً (الأجانب، الدماء النجسة) قد تناسب الحاجات الثورية لعام 1795؛ ولكنها اليوم لم تعد، أو لا يتوجب أن، تتناسب مع القِيَم الجمهورية لفرنسا الحديثة. ولقد أعدّ قرصاً مدمجاً (CD) يحتوي على كلمات النشيد الوطني البديل، ثمّ وزّعه على أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) وعلى شخصيات ثقافية وفكرية وسياسية هنا وهناك، آملاً بنقل النقاش إلى مستوى عملي.
دون جدوى، غنيّ عن القول، إذْ ظلّ «المارسييز» عميق التجذّر في الذاكرة الجمعية، فأقرّ 40% من الفرنسيين بـ»دموية» النشيد، ولكن 7% فقط منهم وافقوا على تغيير كلماته! الأرجح أنّ نسبة مماثلة سوف تعكسها استطلاعات رأي الجزائريين حول حذف الفقرة الثالثة من «قسماً» أو الإبقاء عليها؛ وليس في المناسبات الرئاسية التي حددها مرسوم تبون نفسه فقط، بل ربما كلما طلعت شمس على بلد «الدماء الزاكيات الطاهرات». ذلك لأنّ النشيد الوطني لأيّة أمّة هو أشبه بعلامة فارقة تميّزها عن سواها، تماماً مثل العلم الوطني أو أكثر قليلاً ربما؛ ويحدث مراراً أن يجهل الآخرون تصميم علم دولة ما، ولكنهم يحفظون موسيقى نشيدها الوطني بسبب عزفه في المناسبات الرسمية والاحتفالات والمباريات الرياضية بصفة خاصة.
ورغم أنّ الفقرة الثالثة قد تكون الأضعف شعرياً في نصّ النشيد، وثمة بعض الوجاهة في دفاع البعض عنها من زاوية تلميحها إلى فرنسا الاستعمارية وليس فرنسا الراهنة؛ فإنّ أية حكمة خلف الاحتفاظ بها أو استبعادها لا تبدأ من اعتبارات كهذه، وهي أشدّ توغلاً في الوجدان الجزائري من أن تحكم حضورها وغيابها سياسات توافق هنا أو نزاع هناك.