السياسة الخارجية الجزائرية أساس العطب الإقليمي (1)
الديمقراطية التي تحتاج إلى الدبابة لحمايتها هي ديمقراطية مريضة. قالها الكبير جدا على “أقزام الجزائر الجديدة” المجاهد عبدالحميد مهري أحد الرجال المحترمين في الثورة الجزائرية وأحد قيادات جبهة التحرير الجزائري الذي يحظى باحترام وتقدير كبيرين من الشعب الجزائري، بسبب مواقفه التاريخية المناوئة والرافضة للانقلاب العسكري والسياسات الدموية التي تورط فيها جنرالات نظام العسكرتاري البومديني في مذابح العشرية السوداء الدموية، هذه المواقف الوطنية الصادقة والواضحة والعقلانية كلفته الكثير من التضييق والإيذاء، بدءا بمؤامرة للإطاحة به من قيادة جبهة التحرير الجزائرية، تورط في التخطيط لها جنرالات العشرية السوداء البارزون كالجنرال محمد بتشين والجنرال محمد العماري والجنرال محمد مدين المكنى بالتوفيق والكولونيل سعيد عبادو، بتنفيذ بئيس من طرف العديد من الوجوه المرفوضة شعبيا وتاريخيا في الجزائر كعمار بن عودة وعمار زقرار ومحمد مجاهد ومحمد عليوي وعبدالقادر حجار وعبدالرحمن بلعياط وعلي صديقي وعلي بن فليس ومولود حمروش وعبدالعزيز بلخادم وعلي كافي وعبدالرزاق بوحارة ورئيس البرلمان الجزائري الحالي صالح قوجيل.
متاعب الراحل عبدالحميد مهري لن تنتهي بالإطاحة به والانقلاب عليه في يناير 1996 في “المؤامرة العلمية” نتيجة لمواقفه الرافضة لسياسات جنرالات الجيش في تدبير الصراع الدموي بسبب الانقلاب على شرعية الصناديق الانتخابية التي تسببت في دخول البلاد في متاهات مذابح العشرية السوداء الرهيبة، بل ستأخذ أبعادا أخرى.
◙ السياسة الخارجية الجزائرية تتعرض لانتكاسات دبلوماسية وسياسية متواترة في جميع الدوائر التي تشتغل عليها نتيجة فقدان صانع القرار الدبلوماسي للرؤية المتبصرة والواقعية
قبلها بسنوات تم استدعاء الرجل كوجه سياسي نظيف بتاريخ نضالي طهراني لقيادة الحزب الحاكم جبهة التحرير الجزائرية بعد الصدمة الكبرى التي تعرض لها النظام العسكرتاري في أحداث انتفاضة أكتوبر 1988، والتي عرفت أحداث عنف وعملية قمع ممنهجة من طرف الجيش وحرق مقرات الحزب الحاكم في مختلف ولايات ومدن الجزائر، تعيين الرجل في منصب قائد حزب الدولة كان أحد القرارات التي اتخذها نظام الشاذلي بن جديد لاحتواء الوضع السياسي والاجتماعي في ما سمي بالديمقراطية التنفيسية والسعي لإجراء إصلاحات سياسية تفضي إلى تعددية سياسية ونقابية وحرية الصحافة.
بالعودة إلى قصة الحكيم عبدالحميد مهري، فقد تعرض لحملة تخوين كبرى وعملية قتل رمزي واسعة لرغبته في حقن دماء الجزائريين واقتراحه ومشاركته في التفكير بحل سلمي وسياسي لوقف حمام دم العشرية السوداء، حيث ابتعد بالحزب عن سياسات الدولة لتصل جرأته السياسية إلى رفضه إعلان دعم الحزب التاريخي في الجزائر لمرشح الجيش للرئاسة لیامین زروال، حيث تم سحب جواز سفره الدبلوماسي من طرف وزير الخارجية الجزائري آنذاك والحالي أحمد عطاف بأوامر من جنرالات الجيش كما صرح أحمد عطاف في لقاء صحفي بوقت لاحق.
مأساة الراحل عبدالحميد مهري لن تنتهي هنا، فسيمنع مرة أخرى من جواز سفره الدبلوماسي الذي هو حقه الدستوري بقانون، لتاريخه السياسي والدبلوماسي كوزير في الحكومة المؤقتة لثورة التحرير ثم كسفير سابق في باريس والرباط، ويمنع هو وزوجته المصابة بالسرطان من مغادرة التراب الجزائري، حيث إن مصاريف العلاج الباهظة اضطرته إلى بيع سيارته وقبول مساعدات من أفراد بالجالية المغاربية في فرنسا، لمكر التاريخ انتهت حكاية الكبير عبدالحميد مهري بجنازة شعبية كبيرة بحضور جماهيري غفير وبمعايير رئاسية ينقصها البروتوكول فقط، ودفن في مقبرة مع عموم الشعب وهي السنة التي ماتت فيها الفنانة وردة رحمها الله ودفنت في مقبرة الشهداء بحضور رئاسي وكبار رجالات الدولة.
نفس الممارسة التي تعرض لها المرحوم عبدالحميد مهري، حين سحب منه جواز السفر الدبلوماسي من طرف وزير الخارجية أحمد عطاف، تعرض لها المرحوم الأمين دباغين وزير خارجية الحكومة الجزائرية المؤقتة في خمسينات القرن الماضي، الذي اشتكى في حياته من عدم تمكنه من جواز السفر الدبلوماسي في عهد بوتفليقة كوزير خارجية، وفي سنة 2023 التاريخ يعيد نفسه، حيث تطالعنا الصحف والمواقع نقلا عن مصادر داخل النظام الجزائري بأن وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة لم يتمكن من سحب جواز السفر الدبلوماسي الخاص به وممنوع من مغادرة التراب الجزائري في ظل إقامة إجبارية لا تتجاوز الحدود، وهي الممارسة العادية جدا في ظل نظام شمولي يبني شرعية حكمه على نظرية المؤامرة الخارجية والعدو الخارجي ويستمد منها أسباب استمراره في حكم الشعب الجزائري وتبديد ثرواته في صفقات تسليح غبية، بدل استخدام أموال الشعب في تنزيل إستراتيجيات تنموية فاعلة.
النظام العسكرتاري الشمولي الجزائري اليوم يراهن على استمرار عبدالمجيد تبون لولاية ثانية ما بعد 2024، لذلك فالملاحظ استمرار عمليات تكسير العظم الممنهجة داخل أجنحة النظام، فسحب جواز السفر الدبلوماسي لرمطان لعمامرة يدخل في سياق التحضير لانتخابات 2024 وإخلاء الساحة أمام مرشح وحيد للجنرالات هو عبدالمجيد تبون بقدراته السياسية المتواضعة جدا.
◙ سحب جواز السفر الدبلوماسي لرمطان لعمامرة يدخل في سياق التحضير لانتخابات 2024 وإخلاء الساحة أمام مرشح وحيد للجنرالات هو تبون بقدراته السياسية المتواضعة جدا
لا يختلف اثنان على أن السياسة الخارجية الجزائرية تتعرض لانتكاسات دبلوماسية وسياسية متواترة ومتتالية في جميع الدوائر التي تشتغل عليها، نتيجة فقدان صانع القرار الدبلوماسي للرؤية المتبصرة والواقعية التي تحدد مسارات تفاعلات السياسة الخارجية مع الملفات الإقليمية، بسبب ارتهانها للرغبات النفسية لـ”مقيم المرادية” ومشغليه من جنرالات النظام العسكرتاري المصابين بالذهان المرضي (المغرب فوبيا)، حيث تصاعدت حدة صراع الأجنحة داخل النظام النيوباترمونيالي الجزائري، خاصة بعد الرجة الكبرى التي تعرض لها نتيجة الحراك الشعبي والتغييرات التي اضطر النظام إلى إجرائها مؤخرا على هيكل السلطة من خلال انقلابات وتصفيات قطاعية في مختلف مستويات الجهاز البيروقراطي والعسكري للدولة.
هذا الصراع انعكس على مؤسسة الخارجية وجهازها البيروقراطي، حيث عرفت وزارة الخارجية تغييرات جوهرية بداية بتغيير الاسم من وزارة الخارجية إلى وزارة الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، ثم إنهاء مهام 16 مسؤولا في وزارة الخارجية الجزائرية لتكليفهم بوظائف أخرى.
وإلى جانب ذلك، وبموجب مراسيم رئاسية أخرى، تمّ تعيين عدد من المسؤولين الجدد في وزارة الشؤون الخارجية، قبل أن يأتي المستجد الحالي بإعفاء رمطان العمامرة من منصب وزير الخارجية وتطويع الأمين العام السابق للوزارة عمار بلاني كسفير في أنقرة واستدعاء أحمد عطاف أحد وجوه العشرية السوداء وصاحب المواقف الكلاسيكية والنمطية في تدبير الملفات الخارجية للجزائر، والتي تتماهى مع الرؤية العنيفة والتصادمية للجنرال السعيد شنقريحة والسلوك الاندفاعي للرئيس عبدالمجيد تبون المفتقر للثبات الانفعالي والوقار المفترض في تصريحات وتصرفات رئيس دولة من حجم الجزائر.