الجزائر تتبنى الموقف البطولي

الوقوف مع المهزوم يتطلب موقفا بطوليا، وشجاعة قد تبلغ حد الانتحار، إلا أنها تعويضٌ معقولٌ عن الفشل، وشعارٌ يغني عن الخبز والبصل، لو عزّ البصل، وضاقت فسحة العيش على قارعة الأمل.

وهذا أمر طبيعي للغاية بالنسبة إلى الغطرسة، من أينما نظرت إليها. ليس لأنها سلوك لا علاقة له بحسبان الحساب، بل لأنها شيء عنيد على الواقع، فتجافيه لأنه يجافيها، ولأن الوصل منقطع بين التحسب والبطولة في فلسفة الضغائن.

اختار الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون أن يلغي زيارته إلى فرنسا، ليذهب إلى موسكو فيوقع هناك “اتفاقات إستراتيجية” مع فلاديمير بوتين. إنما ليُناكف بها إيمانويل ماكرون.

لا تصعب على أحد معرفة إلى أين سوف تصل هذه الاتفاقات. الأمر مرتبط بشدة بنتائج الحرب مع أوكرانيا. كما أنه مرتبط بموقع روسيا في التوازنات الإستراتيجية الدولية.

لا شك أن الجزائر يمكن أن تحقق مكاسب كبيرة في نظام دولي تهيمن عليه روسيا. إلا أن هذه الهيمنة تحتاج إلى مخيلة واسعة، وتأملات تجمع بين الوصول إلى قعر قنينة الفودكا وبين تدخين السيجارة المناسبة، لكي تندلع الآمال كما تندلع الحرائق.

لن يطول الوقت، على أي حال، قبل أن تنتهي الحربُ في أوكرانيا بما يجب أن تنتهي إليه. ولسوف يتعين على حلفاء الرئيس بوتين أن يشربوا من كأسه

العلامات التي تدلّ على أن روسيا سوف تُطرد من النظام الدولي كثيرة. انسحاب الشركات الغربية من روسيا، أو حتى تخليها عن أعمالها هناك، يقدم مؤشرا صارما على حقيقة أن روسيا لن تعود مكانا صالحا للاستثمار، وأن القطيعة بينها وبين الأسواق الدولية سوف تستمر إلى أمد بعيد.

حتى مجيء رئيس روسي جديد، يكرر تجربة غورباتشوف بالانفتاح على الغرب، لن يستعيد الثقة التي تهدمت مع تعالي النزعة القومية المتطرفة التي يقودها ويتحصن بها بوتين.

المؤشرات التي تقدمها الشركات الغربية في التعامل مع روسيا، تقول إنها إصبع متعفن، ومن الخير له أن يُقطع.

قد تصبح روسيا ثمرة تسقط في حضن الصين، إلا أن ذلك ليس مما يهم الغربيين كثيرا طالما أن الصين نفسها هي ثمرة التحول الصناعي الغربي.

الغرب ترك للصين أن تصنع ما كان يصنع بآلاته، لكي تتفرغ إمكاناته لصناعة المعرفة وتكنولوجيات العلم. وهناك القيود والتضييقات التي يمكن أن تحد من قدرتها على التمرد. والنظرة الجديدة إلى الصين تتراوح بين الامتناع عن “فك الارتباط” وبين إنشاء روابط بديلة، تحد من الارتهان لبكين.

هذا يجعل من الذهاب إلى الصين بطولة أعقل. إذ لا يزال أمام هذه القوة الاقتصادية العظمى ما يمكنها أن تقدمه لحلفائها أو الذين يرتبطون بعلاقات تجارية أو إستراتيجية معها. وهي، على أي حال، ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، بينما روسيا التي اختارت الانتحار في أوكرانيا تحتل المرتبة 11 بين أكبر اقتصادات العالم بناتج إجمالي يبلغ 1.78 تريليون دولار. تتفوق عليها، بالترتيب صعودا، كوريا الجنوبية (بناتج إجمالي يبلغ 1.8 تريليون دولار)، وكندا (1.99 تريليون دولار)، وإيطاليا (2.1 تريليون دولار)، وفرنسا (2.94 تريليون دولار)، والهند (3.17 تريليون دولار)، وبريطانيا (3.19 تريليون دولار)، وألمانيا (4.22 تريليون دولار)، واليابان (4.94 تريليون دولار)، قبل أن تصل إلى الصين (17.73 تريليون دولار) والولايات المتحدة (23 تريليون دولار)، إنما لكي تفهم من ذلك، إذا كان الفهمُ ممكنا، أن روسيا بلد يُبالغ كثيرا في قيمته، ويريد أن يلعب أدوارا لا يستحقها، وهو يفعل ذلك لأنه وصل إلى قاع القنينة، وشرب فوقها كأسين عامرين بالأوهام.

المؤشرات التي تقدمها الشركات الغربية في التعامل مع روسيا، تقول إنها إصبع متعفن، ومن الخير له أن يُقطع

والحرب تجري إلى مستقر لا تملك روسيا حياله إلا التهديد بما لديها من أسلحة نووية. فإذا كانت عاجزة عن كسبِ الحرب التقليدية، بما توفره دول الحلف الأطلسي من معدات وذخائر وأموال لأوكرانيا، فإن استخدام السلاح النووي سوف يعني شيئين على الأقل: هزيمة سياسية يمكن أن تؤدي إلى طردها من الأمم المتحدة، بوصفها نظاما مارقا. وهزيمة اقتصادية شاملة تبدأ من مصادرة كل ما تملك من احتياطات في الخارج تبلغ نحو 400 مليار دولار، عندما تتوفر الذريعة الأخلاقية للمصادرة. ثم لا تنتهي بتجريم كل علاقة تجارية معها.

تحتاج أن تكون بطلا مقداما لكي توقع “اتفاقات إستراتيجية” مع المهزوم، لكي تنهزم به ومعه. تحتاج أن تكون عنيدا أيضا لكي لا ترى حدود ما يمكن لبلد يُبالغ بإمكانياته، في ما يمكن أن يقدمه لك. ولكن ضعيفا ومأزوما، يظل بوسعه أن يرى في كل ضعيف ومأزوم مَنْ قد ينفعه، أو يواسيه ويواسي نفسه به. فذلك طبع من طباع البشر.

ويعرف الرئيس تبون أن الجزائر تلعب في المسافة بين الحاجة الأوروبية إلى نفطها وغازها، وبين ميولها السوفياتية المثيرة للضحك. وهو يكسب من هذه المسافة ما يستطيع أن يناور به. ربما لكي يوصل رسائل النكد السياسي إلى باريس، وليقول لحلفائها الأوروبيين إنه ليس “معزولا” عن باقي “القوى العظمى” (على اعتبار أن روسيا قوة عظمى)، وإنه يستطيع أن يحقق منافع إستراتيجية معها ولو جاءت “على قدّ حاله” وحال تلك “القوة العظمى”.

لن يطول الوقت، على أي حال، قبل أن تنتهي الحربُ في أوكرانيا بما يجب أن تنتهي إليه. ولسوف يتعين على حلفاء الرئيس بوتين أن يشربوا من كأسه.

ولكن البطولة تظل في النهاية هي جائزة المهزومين، التي يرفعون بها رؤوسهم أمام “الأعداء” الذين جاء يوم حسابهم بعدما زال العتاب، وتم طويه كما يطوى الكتاب، ليستعدوا فيأخذوا الجواب، إلى آخر نشيد العيش في طوابير الذاكرة.

تحتاج شجاعة أن تفعل ذلك، وأنت تحار في توفير الخبز والبصل.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: