الباعة الفوضويون في الجزائر يحتلّون الشوارع
مع تزايد البطالة في صفوف الشباب الجزائري انتشرت ظاهرة التجارة الهامشية التي احتلت الشوارع بحثا عن رزق خلّف فوضى وخسارة للتجار في محلاتهم، الذين يدفعون الضرائب ويشترون ويبيعون بضاعة معلومة المصدر، ما شوّه وجه المدن وأرهق المارة والمتساكنين بسبب الزحمة والضوضاء.
مع تزايد الظاهرة، أصبحت التجارة الفوضوية في الجزائر كأنها القاعدة وغيرها الاستثناء، ولم يكتف التجّار الفوضويون بالتواجد على هوامش الأسواق، بل عمدوا إلى احتلال الشوارع القريبة وحتى الطرق العمومية، مما تسبب في مشكلات كبيرة للعابرين إضافة إلى إفلاس الكثير من التجّار، دون إغفال المخاطر الصحية للسلع مجهولة المصدر التي يروّجونها.
وفي مكان غير بعيد عن البيت الذي كان يسكنه الروائي والفيلسوف الشهير ألبير كامي، وبحي بلكور الشعبي الذي أصبح يحمل اسم المناضل والشخصية الثورية محمد بلوزداد، لا يزال السوق الشعبي المعروف باسم “مارشي ثناش” (سوق 12) يستقطب الزائرين رغم الحديث المتكرر عن غلقه. ويتجاوز الباعة الإطار المحدّد لهم ليحتلوا مساحات واسعة حتى كاد الحي الشعبي كله يتحوّل إلى سوق.
وعلى بعد مئات الأمتار من “مارشي ثناش”، اضطر أحد السكان الذي كثيرا ما يجد الباعة والزبائن يحاصرون بيته، إلى وضع لافتة يقول فيها، “ممنوع البيع أمام المنزل”، بعد أن يئس من الكلام المكرر معهم، وفي كل مرة يطرد بائعا من هناك ليفاجأ ببائع آخر، حتى أصبح يفكر جديا في تغيير تلك اللافتة ووضع أخرى يقول فيها إن “المنزل للبيع” لينتقل بعدها للعيش في حي “أقل شعبية”.
ولا يقتصر الأمر على حي بلوزداد بوسط الجزائر العاصمة، بل تطورت الظاهرة لتشمل كل المدن والأحياء تقريبا، خصوصا تلك التي تضم أسواقا يومية، حيث تتضخم تلك الأسواق لتشمل الكثير من الباعة الفوضويين إلى جانب عدد قليل من “التجّار الرسميين” المقيّدون في السجل التجاري ويدفعون الضرائب وحقوق التأمين.
ويشعر الباعة الشرعيون بالغبن وهم يرون مداخيلهم تقل يوما بعد آخر في ظل انعدام شروط المنافسة. وفي هذا الصدد يقول تاجر “أنا مضطر إلى شراء السلعة بسعر معلوم ومجبر على بيعها وفق هامش ربح محدد، لكن يأتي من يجلب سلعة لا أحد يعرف مصدرها ويبيعها أقل من تكلفتها المعروفة، فأين العدالة يا ترى؟ خاصة إذا كنت أنا أدفع الضرائب، ومنافسي مثل السارق الذي يحقق فائدة مهما كان ثمن سعر سلعته؟”.
وأمام هذا الوضع أصبحت الشوارع المحاذية للأسواق اليومية محتلة بالكامل من قبل الباعة الفوضويين، فلا مجال لمرور السيارات، ويجد من يسير على قدميه صعوبة بالغة في العبور ويضطر المستعجل إلى تغيير مساره ويقطع مسافة أطول، لكن تلك الشوارع تصبح فارغة تماما بشكل مفاجئ عندما يأتي أفراد الشرطة وموظفو الرقابة، حيث يهرب كل عارض بسلعته حتى لا تصادر ويجد نفسه أمام القضاء.
ويعتقد الصحافي ياسين مباركي أن تأثير هذه الظاهرة يمكن مشاهدتها “في تغيير الطابع الجمالي والسياحي للمدينة من خلال تغيير المنظر العام للأحياء والشوارع الرئيسة، والتلوث الذي يلحق بها جراء هذا النشاط التجاري الذي يعوق عمل الجهات المختصة بالنظافة وتزيين المحيط”.
ومن جانب آخر، يرى مباركي أن مدن الجزائر “تشهد ازدحاما مروريا وصعوبة في حركة تنقل الأشخاص في هذه الأماكن، ما تنجر عنه جملة من المشاكل النفسية للأفراد وكذلك بعض المشكلات الاجتماعية التي ينجر عنها تشكل سلوكيات سلبية وثقافة مواطنة تنتشر بين الأجيال يصعب تداركها مع مرور الزمن”.
ويرى محمد ثابتي، الباحث في علم الاجتماع، أن “ظاهرة البيع الفوضوي أو ما يسمى بتجار الأرصفة هي ظاهرة سلبية انتشرت بشكل متفاقم وملحوظ، وتمس كل محافظات وبلديات البلاد، وتصنف ضمن الظواهر الخطيرة لانعكاساتها الصحية على المستهلك وانعكاساتها الجمالية على المدينة وما تسببه من تشوه بصري وانتشار القمامة والنفايات مساء بعد غلق المحلات وشبه الأسواق، بالإضافة إلى هاجس الراجلين وخاصة الأطفال وتوقع حوادث مرور وعرقلة السير”.
ويضيف ثابتي أن السبب الحقيقي وراء تفاقم هذه الظاهرة “يرجع إلى تعنت التجار ونقص الرقابة من المصالح المختصة وغياب دور المجتمع المدني على اعتبار أن الأرصفة والساحات العمومية هي فضاءات مشتركة والاعتداء عليها يصنف ضمن استغلال المجال العام، ويمكن تعليل قراءتنا عن طريق توظيف أداة الملاحظة اليومية حيث يتعذر التجار بأسباب يرجعون أغلبها إلى صغر حجم المحل وارتفاع أسعار الإيجار”.
ولعل أخطر ما في الظاهرة، هو احتلال الباعة الفوضويين للطرق بمختلف أنواعها، سواء عند مداخل المدن أو خارجها، فصاحب السيارة قد يجد نفسه وسط اختناق مروري كبير، يعتقد من خلاله أن الأمر يتعلق بحادث أو بحاجز عسكري، لكنه في النهاية يرى أصحاب الشاحنات يحتلون أجزاء معتبرة من الطريق، خاصة في أوقات المساء ولا يأبهون باحتجاج المحتجين ولا يغادرون إلا مع قدوم أفراد الشرطة أو الدرك الوطني.
في الحقيقة، الأمر لم يعد يتعلق بالباعة الفوضويين وإنما وصل إلى التجار “النظاميين” الذين صاروا يحتلون الأرصفة والطرقات المحاذية ظنا منهم أن كل ما هو مجاور أو مقابل للمحل كالأرصفة وحتى الطريق العام هو ملك خاص وجب “تأميمه”. مشهد وصفته السيدة علجية بـ”المؤلم” ليس فقط لأنه يشوه المنظر العام للبلدة أو المدينة، وإنما يلحق الضرر بالمارة خاصة كبار السن والمكفوفين والمعوقين حركيا، داعية القائمين على أشغال إعادة التهيئة إلى احترام المعايير والقوانين.
نداء السيدة علجية، وضعه المهندس عبدالكريم لنقر، عضو مؤسسة تراث المدينة والعمارة بمحافظة سطيف، أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة ذات المدينة، ضمن الحملة التحسيسية والتوعوية التي يجب أن تستهدف جميع مكونات المجتمع، بمن فيها التجار وكل من يستعمل هذا الفضاء العام.
ويدعو الأستاذ لنقر، الذي يتواجد ضمن فريق يشرف على المرافقة التقنية لتهيئة مسار يمتد على مسافة نحو خمسة كيلومترات بوسط مدينة سطيف، إلى تغيير الذهنيات والتخلي عن الأفكار الخاطئة المتوارثة، مشددا على ضرورة احترام الفضاءات العامة.
حاولت السلطات الحكومية التصدي لظاهرة الباعة الفوضويين والسوق الموازية، من أجل ضخ الأموال المتداولة الناتجة عن هذا النشاط في النظام المصرفي العادي، والتي قدرها رئيس البلاد عبدالمجيد تبون بنحو 75 مليار دولار، لكنها فشلت على ما يبدو بالرغم من الحوافز والآليات التي تم إقرارها.
“عجز” يبدو أنه مؤقت، لأنه لا مناص من فرض سلطة القانون إذا أريد للفوضى أن تنتهي وتترك مكانها للنظام وحق الآخرين في التمتع بحياة هنية.