رؤية العرب للغرب.. أسرار القوة وأسباب الهوان

قالت العرب: “إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ”.

هذه الصفات المميزة والسمات الفاعلة ذات الآثار العميقة في حياة الشعوب التي ذكرها عمرو بن العاص في الروم، وهم الغرب في أيامنا هذه، تجمع أسرار تفوّقهم على العالم في جُلّ المجالات. ورؤيته للغرب في زمن النبوة تكشف عن بصيرة نافذة ساعدته على تحديد طبائعهم وخصالهم بكلمات قليلة لكنها غزيرة الدلالات.

ويكتسبُ تحليل عمرو بن العاص صفات الغرب أهميته من شخصيته التي تُعلي شأن العقل والفكر، وتحسنُ معايشة الواقع بكل مفرداته، وتستنبطُ منه الحجة الدامغة والبرهان الساطع، بالإضافة إلى خبراته وتاريخه في التعامل معهم سلما وحربا، فقد وقف على الكثير من صفاتهم التي تكفلُ لهم البقاء والاستمرارية، وتعينُهم على تصويب الأخطاء التاريخية التي وقعوا فيها، والاستفادة منها، وتيسّرُ لهم تجديد الدورات الحضارية بعد كل هزيمة.

وكلام عمرو بن العاص عن الروم يتناولُ أمرين مهمين: الأول إبراز حقيقة أنّ الروم، وهم: أميركا وأوروبا وأستراليا وكندا بلغة العصر، سيكونون أكثر الناس في آخر الزمان، وأن الأكثرية ليست عددية فقط، ولكنها تشمل في الوقت نفسه: أسباب القوة، ومعايير التقدم العلمي والتقني، ودعائم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. أما الأمر الثاني فجاء  تفسيرا اجتماعيا وسياسيا وإنسانيا لأسباب تفوّق الغرب وأسراره.

◙ عالمنا العربي إذا سقط في أزمة لا ينهض سريعا، وتظل الأزمات تتوالى عليه، ولا تفيق دولة من أزماتها إلا ببطء شديد؛ فلسنا على شاكلة من قال فيهم عمرو بن العاص “أَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ”

لماذا نسترجع ماضي الأحداث، وكأنها نفس ما نشاهد اليوم؟

لا يغيب على منصف أن الهدفَ الأسمى من قراءةِ التَّاريخِ هو أخذ العِبرةِ والعظةِ، والاستفادة من أحداث الماضي في بناء الحاضر، وصناعة المستقبل الأفضل. وقد أبرز ابنُ الجوزيّ هذه الحقيقة في مقدّمة كتابِه “‌شُذُور ‌العُقود ‌في ‌تَاريخ ‌العُهُود” بقوله: “التَّواريخ ‌وذكر ‌السّير راحة للقلبِ، وجلاء للهمِّ، وتنبيه للعقلِ؛ فإنَّه إن ذُكِرت عجائبُ المخلوقاتِ دلَّت على عظمةِ الصَّانع، وإن شُرِحت سيرة حازم عَلَّمت حسنَ التَّدبيرِ، وإن قُصَّت قصةُ مُفَرِّط خوَّفَت من إهمالِ الحَزمِ، وإن وُصِفت أحوالٌ ظريفةٌ أوجَبَت التَّعجُّبَ من الأقدارِ، والتَّنزُّهَ فيما يُشبِهُ الأسمارَ”.

وهذه المطالب محل إجماع العلماء والمفكرين والمثقفين، بل العقلاء عامة، فلا ينبغي الانقطاع عن الماضي بدروسه مهما كانت نتائجها وآثارها في حياة الشعوب؛ فكم من “منحة” وُلدتْ من رحم “محنة” وكم من “أمل” بُعث من “ألم”.

ونتوقف أمام تساؤل مهم: لماذا قدّم عمرو بن العاص، دون غيره، هذا التحليل المهم عن مستقبل الغرب؟

الجواب يسير؛ فقد كان من أكثر أبناء عصره خبرة بتلك البلاد وشعوبها وطبائعها وعاداتها وأخلاقها. تنقل بين الكثير من أقطار العالم، وسافر إلى الشام، وخبرها، وشارك في فتحها، كما زار السودان والحبشة واليمن وبيت المقدس وغيرها. ومن الثابت تاريخيا أنه زار مصر عدة مرات قبل فتحها بوصفه تاجرًا، وذهب إلى الدلتا ومن بعدها إلى الإسكندرية.

ولا يخفى أن عمرو بن العاص كان من أبرز رجال السياسة العربِ في عصره، ولايزال يُضرب به المثل في الفِطنة والدهاء، والخبرةِ في إدارة سياسةِ الحروب. واجه الروم وانتصر عليهم في معارك عديدة، أبرزها معركة اليرموك، وطردهم من بيت المقدس بعد أن حاصرهم وقطع إمداداتهم، وهزمهم خلال فتح مصر في الفَرَما، وبلبيس، وأُمّ دِنِين، وصولا إلى حصن بابليون الذي سقط بعد حصارٍ دامَ سبعة أشهر، وكان سقوطه إعلانا بفتح مصر.

وقول عمرو بن العاص في الروم: “إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ” إنما يَسِمُهم بأمر إيجابي، فالحلم يرتبط بخصال حميدة، أبرزها: الأناة، والعقل، وضبط النفس عند الغضب، والحِلم يجلبُ خيرًا دائما، خاصة عند الفتن التي تطيش فيها العقول، ويفقد بسببها الكثيرون اتزانهم. فالروم، أو الغرب، في تحليله لا تذهب عقولهم عند الفتن، ولا تطيش أفهامهم.

وهم أحلم الناس عند فتنة، فلا تعرف بلادهم الفتن، أو الحروب والصراعات السياسية التي لا حلّ لها، فلم تعتد شعوبهم خرق القوانين الداخلية، أو إشعال الاشتباكات الطائفية والعرقية والمذهبية التي تعرفها بلاد عربية عديدة، ولا يفكر أحدهم في أذى غيره إلى آخر تلك السلوكيات التي تجرّ الأمم إلى الوهن والتفكك، فكل منهم يعرف واجبه فيؤديه في صمت، ويعي حقه فيطلبه دون رشوة، أو واسطة، أو نفاق.

أما قوله: “وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ” فيعني أن الروم، أو الغرب بمفهوم العصر، لا يستسلمون لآثار ما يلحق بهم من مصائب تقعدهم عن النهوض فترة من الزمن، أو تجرهم إلى الخلف حينا، أو تعصف بمكانتهم وتزلزل واقعهم حينا آخر، بل إنهم يفيقون سريعا مما لحق بهم من كوارث، ويَعودون قبل غيرهم إلى صوابِ أمرِهم بعْدَ كلِّ مُصيبةٍ؛ فقد دمرت بريطانيا وفرنسا وألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وعادت أقوى مما كانت.

تلك ميزة كبرى لم يجد عمرو بن العاص حرجا من أن يشيد بها؛ إحقاقا للحق، واحتراما للواقع، وشهادة للتاريخ، وتذكيرا بما ينبغي أن يكون عليه الجميع، وفي مقدمتهم العرب المؤهلون أكثر من غيرهم لهذه الخصال.

◙ ينبغي أن ندرك حقيقة أن ما قرره عمرو بن العاص من صفات بحق الروم، أو بالأحرى الغرب بمفهوم العصر، ليس من قبيل المدح، وإنما إحقاق للحق، والتزام لفضيلة “إنصاف الخصم” التي تجلت كثيرا في أخلاق العرب في عصر النبوة

وجاء التاريخ شاهدا على براعة تحليل عمرو بن العاص، فقد توالت على الغرب المصائب، وحاصرته النوازل من أعاصير وزلازل وبراكين وسيول أودت بحياة مئات الآلاف، وخاضت دوله حروبا مدمرة، ولكنها أفاقت سريعا، ونهضت من كبواتها، وعادت أقوى مما كانت عليه.

وإذا كانت الصفتان الأولى والثانية أقرب إلى خصال الحياة العامة، فإن الثالثة “وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ” تتصل بأمر خبره عمرو بن العاص فيهم، بوصفه قائدا عسكريا بارعا، اشتهر بالذكاء والدهاء وحسن المراوغة والخداع في المواقف التي تتطلب خططا عاجلة، تستهدف “الكرّ” ولو بعد “فرّ” حقيقي أو تكتيكي.

فالروم، أو الغرب، في تحليل عمرو بن العاص الأسرع كرًّا بعد فرٍّ، فإذا انهزموا مرة فسرعان ما ينتصرون بعدها، وإذا انتكسوا مرة فسرعان ما ينتفضون بعدها، وليس من شك في أن وراء هذا دول ومؤسسات تعلي “النقد الذاتي” وتؤمن بمراجعة المسار وتصويب المسيرة.

ونتوقف مع رابعة صفات الروم، أو الغرب، في تحليل عمرو بن العاص “وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ” فهذه السمة تتصل اتصالا وثيقا بقضية التكافل الاجتماعي، ومواجهة الفقر، والتخفيف من آثاره، والحد من مخاطره على الفئات الضعيفة والمهمشة في المجتمع.

وإذا كان عمرو بن العاص عدّ أربعا من صفات الروم، أو الغرب، مستخدما أسلوب العطف بـ”الواو” للربط بينها، ووضعها في سلة واحدة؛ فقد اختص الصفة الأخيرة بحفاوة ملحوظة، وأنزلها قدرا فوق قريناتها، وجعلها “أخص” الصفات، وقدم لها بثلاثة نعوت: “خامسة حسنة جميلة”. تلك الصفة هي: “وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ” أي: أنَّهم يَمنَعون الملوكَ مِن الظُّلمِ، أو أنَّهم يَحمُون النَّاسَ مِن ظُلمِ الملوكِ.

وجاءت أحداث الحاضر، لتنصف رؤية العرب للغرب في زمن النبوة، فنشعر معها أن عمرًا بن العاص سبق عصره، ليراه المنصفون أشبه بالخبير السياسي والإستراتيجي والسوسيولوجي المخضرم المعايش للغرب عن قرب في كل أحوالهم وشؤونهم، القادر على استشراف ملامح مستقبلهم؛ ليقرر أسرار قوتهم التي ستؤهلهم للسيادة والمنعة حتى اليوم، دون أن تعزله القرون الطويلة عن صواب الرؤية، وهي نفسها تكشف عن أسباب الوهن لمن هجرها.

فها هي رئيسة المحكمة العليا البريطانية، التي تجاوزت الثمانين من عمرها، تتكلم، في خطاب مهم، عن مخالفة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الحقيقة ليقنع الملكة بضرورة تعطيل البرلمان البريطاني خمسة أسابيع، ليتسنى له تحقيق وعده بالخروج من الاتحاد الأوروبي. أبطلت المحكمة تعطيل البرلمان، واتهمت جونسون بالكذب، ومحاولة إجهاض نفوذ السلطة التشريعية.

ومنذ 113 عاما صدر كتاب غوستاف لوبون “روح السياسة” الذي تناول موضوعي “الشرعية” و”المشروعية”، فأكد أنّ “الشرعية” لن تتحقق طالما افتقد الحكم إلى رضا الناس ومنجز ملموس، و”المشروعية” تفترض حكم القانون لتأمين الأمن والاستقرار للناس وحماية حياتهم وممتلكاتهم.

وروح السياسة تجعل الحاكم والمحكوم قطبي الرحى فيها، وبقدر ما تتمتع العلاقة بشيء من الثقة يكون نجاح وظيفة الحاكم، من خلال الاعتماد على واقع يتجدّد ويتغيّر بتبدّل نظمه وقوانينه.

وها نحن نرى فنون السياسة تزداد كلّ يوم، بما فيها دور القوّة الناعمة والدبلوماسية الاقتصادية والثقافية وغيرها خصوصا والعالم في الطور الرابع للثورة الصناعية. ولا شكّ في أن عنصر الإقناع في السياسة يبقى ضروريا، فالاقتناع إذا تحقق لدى الناس أصبح قوّة ماديّة يَصعُب اقتلاعها، وكان القائد الفرنسي نابليون بونابرت يُعنى بهذا الأمر، ويؤكّد أن التكرار أشدّ عوامل الإقناع تأثيرا.

◙ الروم، أو الغرب، في تحليل عمرو بن العاص الأسرع كرًّا بعد فرٍّ، فإذا انهزموا مرة فسرعان ما ينتصرون بعدها، وإذا انتكسوا مرة فسرعان ما ينتفضون بعدها

وينبغي أن ندرك حقيقة أن ما قرره عمرو بن العاص من صفات بحق الروم، أو بالأحرى الغرب بمفهوم العصر، ليس من قبيل المدح، وإنما إحقاق للحق، والتزام لفضيلة “إنصاف الخصم” التي تجلت كثيرا في أخلاق العرب في عصر النبوة، كالإشادة بحلف الفضول، والثناء على كرم حاتم الطائي، ونحو ذلك.

كما ينبغي أن ندرك في الوقت نفسه أن للكون سننا لا تعرف المحاباة، ولا تستهدف المجاملة، ولا تتحقق مصالحها بغير التزام أسبابها، ولا تذهب ثمارها لمن لم يزرع شجرتها، ولا تخطئ فضائلها من أحسن التعامل معها، والتزم قواعدها، فمن وعى أسباب التقدم ذاق ثماره، ومن جافاه تجرّع مراره.

ولا شك في أن “صفات الغرب” التي اشتمل عليها تحليل عمرو بن العاص قبل نحو 1400 عام هي في الحقيقة من أخصّ السمات العربية التي تعاقبت عليها عصور مختلفة عمّقت بعضها، وأبعدت الأمة عن بعضها الآخر بغير مبرر.

فأين نحن الآن من هذه الرؤية وما اشتملت عليه من خصال قادت الغرب إلى التقدم والقوة؟

الإجابة عن هذا التساؤل تكشف عن أن عالمنا العربي إذا سقط في أزمة لا ينهض سريعا، وتظل الأزمات تتوالى عليه، ولا تفيق دولة من أزماتها إلا ببطء شديد؛ فلسنا على شاكلة من قال فيهم عمرو بن العاص “أَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ”. ولم تعد أمتنا تتصف بأنها “خَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ” فهي أبعد ما تكون عن ذلك بعد أن نخرت في أركانها أسباب الوهن والتفكك إلا ما رحم ربي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: