عاد ملف سبتة ومليلية إلى واجهة التوتر بين المغرب والاتحاد الأوروبي، وتحت أنظار مدريد، ومعه يتم طرح تساؤلات هل يمتلك المغرب استراتيجية متعددة المدى في هذا الملف؟ أم مجرد ردود الفعل للحفاظ على نوع من الكبرياء. وعاد إلى الواجهة بعد مبالغة نائب رئيس المفوضية الأوروبية مارغريتيس شيناس، الذي اعتبر سبتة ومليلية إسبانيتين، وردت الرباط باحتجاج على الاتحاد الأوروبي، غير أنها لم تحتج نهائيا على تصريحات وزيارات المسؤولين الإسبان إلى المدينتين طيلة السنوات الأخيرة، بل وصل الأمر إلى أن رئيس حكومة مدريد بيدرو سانشيز قال أمام البرلمان، إنه طلب من المسؤولين المغاربة عدم التشكيك في إسبانية المدينتين.
ويمكن وصف تصرف دبلوماسية المغرب بخطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، لاسيما إذا جرت المقارنة مع تحرك الأرجنتين في ملف جزر المالوين، وتحرك إسبانيا في ملف صخرة جبل طارق. وإذا كان ملف الصحراء لا يعد ثنائيا بين المغرب وإسبانيا، بحكم إشراف الأمم المتحدة عليه رغم دور إسبانيا بصفتها قوة استعمارية سابقة، يبقى ملف سبتة ومليلية ملفا ثنائيا بين الرباط ومدريد، ويلقي ظلاله على العلاقات منذ قرون. وعمليا، فقد تسبب ملف المدينتين في نزاعات وحروب إبان مراحل تاريخية مختلفة، وهو مرشح للتسبب في مزيد من النزاعات مستقبلا. واعتادت مراكز التفكير الاستراتيجي في إسبانيا والغرب التركيز على ملف المدينتين، كسبب رئيسي محتمل في اندلاع أي حرب مستقبلا بين البلدين. وفي الوقت ذاته، تضع وزارة الدفاع جزء مهما من مخططاتها الدفاعية بشأن نشوب حرب مستقبلا مع المغرب بسبب هذا الملف كذلك.
التنازلات التي يعتبرها المغرب ظرفية بسبب الصحراء، تحولها إسبانيا إلى مكاسب سياسية شبه أبدية
وكان فيلبي غونثالث رئيس حكومة إسبانيا سنة 1990 قد سرّب إلى الصحافة ومنها جريدة «الباييس»، المخطط الاستراتيجي المشترك، الذي تضمن كيف سيرد الجيش الإسباني على المغرب في حالة إقدام الأخير على غزو سبتة ومليلية مستغلا حرب العراق. وكانت مدريد متخوفة من طرح المغرب ملف المدينتين، أو تنفيذ هجوم مباغت إبان تلك السياقات المتوترة، ومما زاد من الطابع الاستعماري للمدينتين، فشل إسبانيا في تحويل سبتة ومليلية إلى مركز لتطوير المغرب مثل تكوين الأطر المغربية، وتطوير التبادل التجاري الذي لا يقوم على التهريب، عكس هونغ كونغ، التي ساهمت في تطور الصين. ومنذ بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، نهجت إسبانيا سياسة فك ارتباط المدينتين بالمغرب. فقد أنهت الارتباطات الدينية عبر استبعاد المغرب من الإشراف على الشأن الديني الإسلامي، وكان المغرب يعين أئمة المساجد فيهما.. وهمشت الروابط الاجتماعية بين ساكنة المغرب والمدينتين، ودفعت بمغاربة المدينتين إلى الهجرة نحو إسبانيا، لتضعف الوجود البشري المغربي. واستغلت سنة 2020 قرار المغرب بإنهاء تهريب السلع من المدينتين نحو باقي المدن المغربية، لتعيد بناء اقتصادهما في استقلال عن المغرب، ثم منعت على المغاربة القاطنين في إقليم تطوان بالنسبة لسبتة وإقليم الناظور بالنسبة لمليلية من الدخول إلى المدينتين من دون تأشيرة فضاء شنغن الأوروبية. ويعتقد المغرب أنه خنق سبتة ومليلية اقتصاديا، بينما الواقع أنه قام من دون وعي بالمساهمة في تهجير الساكنة من أصول مغربية نحو إسبانيا. ويرتكز الخطاب الرسمي المغربي على ضرورة إيجاد حل لنزاع المدينتين بعد استعادة إسبانيا السيادة على صخرة جبل طارق التي تحتلها بريطانيا منذ سنة 1704 بموجب اتفاقية أوتريخت. وكانت إسبانيا تقبل بهذه الصيغة في الماضي، خاصة عندما كانت أحزاب سياسية مثل الحزب الاشتراكي تؤمن بضرورة إعادة المدينتين للمغرب، ولكنها غيرت من موقفها خلال الثلاثة عقود الأخيرة. وبينما تجري مدريد مفاوضات مع لندن حول مستقبل صخرة جبل طارق، ترفض فتح مباحثات مشابهة مع الرباط حول الموضوع. ويدافع تيار وسط الدولة العميقة في إسبانيا على إغلاق باب التفاوض مع المغرب بشأن مستقبل المدينتين، واعتبار سبتة ومليلية ضمن «الأراضي الإسبانية وراء البحار»، كما هو الشأن مع أراض تابعة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. ورغم هذا الرفض، توجد إسبانيا في موقف ضعف وسيتفاقم هذا الموقف مستقبلا نتيجة ثلاثة عوامل وهي:
في المقام الأول، استحالة قبول القوى الكبرى بهيمنة إسبانيا على مدخل معبر بأهمية مضيق جبل طارق، ترفض دول مثل روسيا والصين، بل حتى دول غربية مثل الولايات المتحدة. وسيحظى المغرب بدعم قوي من طرف موسكو وبكين لاستعادة سيادته على سبتة ومليلية، كما سيحظى بدعم عربي وإسلامي وافريقي، ما سيجعل الملف شائكا، نظرا لتداخل الديني والجيوسياسي والاقتصادي. والجدير بالإشارة هو وجود أحزاب سياسية في إسبانيا، خاصة في كتالونيا وبلد الباسك تعتبر الوجود الإسباني في المدينتين استعمارا يجب تصفيته. ويتأخر المغرب في طرح هذا الملف لتأثير إسبانيا في ملف يحظى بالأولوية وهو نزاع الصحراء.
في المقام الثاني، في حالة قبول إسبانيا باستفتاء في كتالونيا أو بلد الباسك، وهناك مؤشرات قوية توحي بقبول الحكومة المركزية مستقبلا بسيناريو شبيه باستفتاء اسكتلندا للبقاء ضمن المملكة المتحدة أم لا، فستفقد وقتها مبررات بقاء إسبانيا في مدينتين يعتبرهما جزءا كبيرا من العالم مستعمرتين.
في المقام الثالث، في حالة توتر الأوضاع بين المغرب وإسبانيا حول سبتة ومليلية، ستقف القارة الافريقية وراء المغرب، بينما لن تؤيد الدول الأوروبية كثيرا إسبانيا، فهي تعتبر استمرار مدريد في المدينتين من بقايا الماضي الكولونيالي، ووضع يجب أن ينتهي.
والمثير أن الحزب الاشتراكي الإسباني يبدي تفهما لمطالب المغرب في نزاع الصحراء، من دون إعطاء موقف جوهري، أي الاعتراف بمغربية الصحراء، لكنه يحصل في المقابل على ما يمكن اعتباره تنازلات مغربية جوهرية في سبتة ومليلية. فقد كان رئيس الحكومة فيلبي غونثالث قد تفهم مطالب المغرب في الصحراء، لكنه في المقابل حصل ضمنيا على سكوت المغرب بشأن منح سبتة ومليلية الحكم الذاتي سنة 1995، رغم أن البلدين وقعا سنة 1991 على اتفاقية الصداقة وحسن الجوار. وكانت زيارة ملك إسبانيا إلى المدينتين خطا أحمر، لكن رئيس الحكومة الاشتراكية خوسي لويس رودريغيث سبتيرو فرض الزيارة يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2007. وأصبحت زيارات ملوك إسبانيا ووزرائها إلى المدينتين أمرا طبيعيا، من دون رد فعل من المغرب، عكس احتجاجه في الماضي. وما كان للزيارة أن تحدث من دون استمالة سبتيرو للمغرب، بموقف داعم للحكم الذاتي. ونجح رئيس الحكومة الاشتراكي بيدرو سانشيز في إقناع المغرب بتحويل سبتة ومليلية إلى مركزين جمركيين بموافقة المغرب سنة 2023، في سابقة تاريخية ذات دلالات رمزية، مقابل دعمه للحكم الذاتي للصحراء، علما أنه اشترط هذا الحل بقبول البوليساريو به، وكان الحزب الاشتراكي هو الذي نقل إلى البرلمان الأوروبي أزمة المهاجرين إبان اقتحام آلاف المغاربة سبتة خلال مايو 2021، وحصل على موقف من البرلمان الأوروبي خلال يونيو من السنة نفسها، يعتبر أن سبتة ومليلية هي أراض إسبانية وأوروبية، علما أن المؤسسات الأوروبية كانت دائما تتجنب الحديث عن سبتة ومليلية.
وهكذا، فإن التنازلات التي يعتبرها المغرب ظرفية بسبب الصحراء، تحولها إسبانيا إلى مكاسب سياسية شبه أبدية. ويتراجع الحزب الشعبي عندما يصل إلى السلطة عن تعهدات الحزب الاشتراكي في الصحراء، غير أنه يزيد من تعزيز ما حققه الاشتراكي من مكاسب في سبتة ومليلية على حساب مطالب المغرب التاريخية. تتقدم إسبانيا في تعزيز نفوذها، ويتحرك المغرب خطوة إلى الأمام ويعود أخرى إلى الوراء ليبقى في مكانه من دون مكاسب بل يسجل خسائر.