زيارتا تبون إلى موسكو وباريس: تعثر فرص الجزائر للإفلات من صراع الأقطاب
منذ الإعلان عنهما، استقطبت زيارتا الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى موسكو وباريس أضواء لافتة، قياسا بما تشكلاه من أبعاد في التوازنات الجيوسياسية، لكن اصطدامهما في كل مرة بعوائق مختلفة جعل منهما مؤشرا على أزمة أكثر من كونهما دليلا على فتح آفاق مستقبلية، خاصة وأنهما اتخذتا طابعا حاسما في مستقبل علاقات الجزائر مع رأسي قوتين دوليتين متصارعتين، ولذلك يبدو أن الجزائر باتت تبحث عن مخرج من مآلهما، ما دام تنفيذهما يدفعها إلى الخروج من المنطقة الرمادية.
الجزائر – غابت بوادر الزيارة المنتظرة للرئيس الجزائري إلى روسيا قبل نهاية شهر مايو الجاري، الأمر الذي يفتح فرضية تأجيلها مرة أخرى إلى موعد لاحق، مما يكرس الصعوبات التي تعتري الزيارة التي دخلت منذ الإعلان عنها ضمن التجاذبات الجيوسياسية.
وتؤكد أن الجزائر واقعة تحت ضغوط طرفي الصراع في الأزمة الأوكرانية، وكل طرف يحاول فك ارتباطها مع الطرف الثاني، ولو أن المؤشرات توحي بأنها تميل لصالح موسكو، غير أنها تبقى متمسكة بخطاب حياد بدأ يعد أنفاسه الأخيرة كلما اقتربت زيارة تبون لموسكو أو باريس.
وذهبت صحيفة “فيدوموستي” الروسية، نقلا عن مصدر دبلوماسي، إلى أن الرئيس الجزائري سيزور موسكو منتصف شهر يونيو المقبل، لكنها لم تشر إلى أسباب تأجيلها حيث كانت مقررة الشهر الحالي، وتزامنها مع زيارة منتظرة لتبون إلى باريس، بحسب تقديرات دبلوماسية في الجزائر وباريس.
مقربون من الرئيس الجزائري يدفعون إلى تغليب الكفة الغربية على اعتبار أن روسيا هي التي بادرت بغزو أوكرانيا
وأرغمت التجاذبات الجيوسياسية المرتبطة بالزيارتين، المنظمين ومصالح التشريفات على عدم إعطاء موعد محدد لهما، حيث يتم الاكتفاء في كل مرة بإعطاء تاريخ مفتوح تفاديا لأي حرج أمام الرأي العام، الأمر الذي يعكس حجم الشكوك والعوائق التي تعتري إجراءهما، وحرص موسكو وباريس على أن تكون زيارة تبون إيذانا بكسب حليف جديد وتغير صريح في موقف البلد تجاه الأزمةالأوكرانية.
وتفيد مصادر مطلعة بأن صراع طرفي النزاع في أوكرانيا، ألقى بظلاله على النخبة الحاكمة في الجزائر، وبات لكل طرف أنصار وموالون له داخل دوائر القرار الجزائري، وأن الحسم في الموقف لن يتم في ظل غياب الإجماع حول الوجهة الإستراتجية التي تأخذها الجزائر، انطلاقا من الزيارتين المذكورتين.
وإذ تبنت الدبلوماسية الجزائرية خطابا محايدا تجاه الأزمة الأوكرانية، فإن المصادر تؤكد أن مقربين من تبون يدفعون إلى تغليب الكفة الغربية، خاصة وأن للموقف ما يبرره، على اعتبار أن روسيا هي التي بادرت بغزو أوكرانيا، لكن في المقابل هناك صقور داخل المؤسسة العسكرية يفضلون تغليب الكفة الروسية لاعتبارات تاريخية وإستراتجية وحتى أيديولوجية.
غياب الإجماع داخل مراكز القرار الجزائري، ترجمه تأخر إعادة فتح السفارة الجزائرية في أوكرانيا وعودة السفير إلى موقع عمله، فرغم تصريح الرئيس تبون، شهر مارس الماضي، لوسائل إعلام محلية بأن بلاده بصدد إعادة سفيرها إلى كييف وإعادة فتح السفارة هناك، إلا أن الأمر لم يتم إلى حد الآن.
ويبدو أن عتاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في القمة العربية بجدة منذ أيام قليلة، لبعض الدول العربية المتعاطفة مع روسيا يشمل الجزائر أيضا، كما كان حضور زيلينسكي لقمة جدة أحد الأسباب التي تم تداولها حول غياب الرئيس تبون عن القمة، وهو ما يوحي بأن التيار لا يمر الآن بين الجزائر وكييف، ولم تعد هناك فرصة لما تردد حول وساطة جزائرية في الصراع، لاسيما بعد غيابها عن تلك التي باشرتها دول أفريقية.
وكانت الدبلوماسية الروسية قد أعربت على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف عن انزعاجها مما وصفته بـ”الضغوطات الأوروبية والأميركية على الجزائر من أجل إبعادها عن حليفها التاريخي والإستراتيجي، وأن هؤلاء لا يدركون طبيعة الموقف الجزائري”، في إشارة إلى الإنزال الدبلوماسي الغربي المفتوح في العاصمة الجزائرية.
لكن رغم ذلك يبدو أن الجزائر غير مطمئنة لمسألة الحسم لصالح أي من الطرفين، ولذلك تأجلت زيارتا تبون المنتظرتان إلى موسكو وباريس عدة مرات، فقد كانتا مقررتين قبل نهاية العام المنقضي، إلا أنهما تأجلتا إلى مطلع العام الجديد، ثم إلى شهر مايو، والآن يجري الحديث عن منتصف الشهر القادم، إن لم يحدث شيء في الأفق.
وقد يكون التسريب الصوتي المنسوب للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سببا في نسف جهود التحضيرات الجارية بين الطرفين لتنظيم زيارة تبون إلى باريس، رغم أن مراقبين لا يستبعدون فرضية دور المعسكر المعادي للتقارب بين الجزائر وباريس في التسريب أو الفبركة.
ويبدو أن الجزائر بصدد البحث عن الخروج من مأزق الاستقطاب الروسي – الفرنسي، عبر إيجاد بدائل أخرى تنفس عنها الضغوط المستمرة عليها منذ اندلاع الصراع في أوكرانيا، وقد تكون الزيارة التي أداها الرئيس تبون إلى البرتغال التي رغم عدم ثرائها إلا أنها تمثل خطة في طريق كسر الاستقطاب، ولا يستبعد في هذا الشأن البحث عن فرص أخرى للخروج من ثنائية موسكو – باريس.