قد لا يظهر الفرنسيون الآن قلقهم العميق من أن يخسروا ما يرونه حديقتهم الخلفية في افريقيا، لكن هل سيأتي اليوم الذي يكتشفون فيه أنه لم يعد في وسعهم أن يعتبروها كذلك؟ تلقي الطريقة التي تدير بها باريس علاقاتها مع أكبر بلدين في المنطقة المغاربية، ظلالا كثيفة من الشك حول ما قد تؤول إليه التطورات في المستقبل. غير أنه من الغريب حقا أن تعرف تلك العلاقات، خصوصا في السنوات الأخيرة سلسلة من التحولات الدراماتيكية، من قبيل الأزمات الدبلوماسية المتتالية وحالات الفتور والبرود الطويلة، وصولا إلى التعايش مثلما هو الحال الآن مع بقايا أزمتين مفتوحتين تلوح على إحداها علامات الانفراج الجزئي على الأقل، فيما لا تزال الأخرى على الحال الذي هي عليه.
ومع ذلك فلا يبدو الإليزيه حريصا على إعادة الأمور إلى نصابها، فهو يتجاهل المشكل ويكتفي بالالتفاف عليه، من خلال الإعلان عن حسن نواياه، وعن تمسكه بروابط الصداقة العريقة مع الجزائر والمغرب، نافيا باستمرار أن يكون له ضلع في تعكير العلاقات مع الدولتين المغاربيتين، ومؤكدا، كما فعل ماكرون في إحدى المرات، على أنه سيمضي قدما في تطويرها، ولكن إلى أي وجهة يسير بالضبط؟ وهل إنه سيخرج بمكاسب من وراء السياسات التي ينتهجها مع جارتي الشمال الافريقي؟ أم ينبغي عليه أن يضع في الحسبان أنه سيكون ممكنا في حال استمرار حالة الانسداد، وسوء الفهم أن تفيض الكأس بالجزائر والمغرب ويقدم البلدان على قطع العلاقات القديمة مع باريس، ويفرضان عليها نمطا آخر لعلاقات جديدة ومختلفة؟
الفرنسيون يتعاملون بحذر شديد مع ملف الذاكرة لأنهم يدركون أن فتحه بطريقة ما سوف لن يعني دفن الماضي، كما يأملون بل إحياءه من جديد في كل المنطقة المغاربية
يلقي الكثيرون باللائمة على ماكرون، ويرون أن كثيرا من مواقفه ومن تصرفاته في الملفين الجزائري والمغربي، اتسمت بسوء التقدير وبالاندفاع وكانت تفتقد إلى المعرفة والخبرة، فيما لمح الأخير في مناسبة سابقة إلى أن هناك قوى وأطرافا ربما داخل الدولة العميقة الفرنسية «تحاول المضي في مغامراتها» و»لديها مصلحة في أن لا يتم التوصل» إلى مصالحة مع الجزائر، و»أن هناك دائما أشخاصا يحاولون أن يستغلوا الظروف» للإساءة إلى العلاقات مع المغرب، لكن إن طلب منه الآن أن يعلق على قرار البرلمان الأوروبي الأخير حول الجزائر، فما الذي يمكنه أن يقوله إذن؟ هل سيعيد العبارات نفسها التي ذكرها في فبراير الماضي، حين سئل عن قرار ذلك البرلمان حول المغرب، وسيقول هذه المرة أيضا «هل كان ذلك صنيعة فرنسا؟ كلا.. هل صبّت فرنسا الزيت على النار؟ كلا.. يجب أن نمضي قدما رغم هده الخلافات». لقد وجد المغاربة في يناير/كانون الثاني الماضي صعوبة في أن يصدقوا أن فرنسا لم تقف وراء قرار البرلمان الأوروبي، الذي انتقد حينها أوضاع حقوق الإنسان في المغرب، ولاسيما حرية الصحافة، وأعرب عن القلق إزاء المتابعات القضائية التي شملت عددا من الإعلاميين والناشطين. ومن الواضح اليوم أن الجزائريين يجدون بدورهم صعوبة في أن يصدقوا أن باريس بعيدة كل البعد عن القرار الذي أصدره البرلمان نفسه الخميس الماضي ودعا فيه إلى «الإفراج الفوري وغير المشروط عن الصحافي إحسان القاضي، وجميع الأشخاص المحتجزين والمتهمين تعسفا لممارستهم حقهم في حرية التعبير». وربما حتى لو حاول الدبلوماسيون الفرنسيون أن يقدموا تفسيرا ما وربما يكررون ما قاله السفير الفرنسي في الرباط، في تصريحات صحافية سابقة من أن «قرار البرلمان الأوروبي لا يلزم أبدا فرنسا.. ونحن مسؤولون عن قرارات السلطات الفرنسية، أما البرلمان الأوروبي فبعيد عن سلطتنا، والأمر يتعلق بشخصيات منتخبة»، فإن ذلك لن يغير شيئا، إذ أن أصابع الاتهام المغربية والجزائرية التي وجهت نحو باريس، لن تتحول بعدها وبسرعة وبفعل أي تصريح من هذه الجهة إلى تلك. والسؤال الآن هو، ما الذي يدفع فرنسا لأن تقوم وفي كل مرة يلوح فيها أن علاقتها بهذا البلد المغاربي، أو ذاك قد بدأت تستعيد عافيتها، ببعث إشارة مبطنة تفيد العكس، أو تعطي الانطباع على أن ذلك ما يزال بعيد المنال؟ وأي شغف يجده الفرنسيون في إبقاء حد أدنى من التوتر في علاقاتهم بالمغرب والجزائر؟ إنهم واثقون من أن الرئيس الجزائري سيزور بلدهم في الموعد المحدد، وأنه لن يكون للقرار الأوروبي الأخير أي تأثير عليها. لكن هل صارت هدفا في حد ذاته؟ أم أنهم يسعون من ورائها إلى تحقيق مكاسب أخرى كتوجيه رسالة إلى المغرب، الذي لا يبدي إلى اليوم استعدادا لاستقبال ماكرون؟ لطالما لعبت باريس على التصدعات القائمة بين الجارتين، بل عملت حتى على تأجيج الخلافات بينهما، وإبقاء جذوتها متقدة ومشتعلة. إن ذلك كان ثابتا من ثوابت سياستها الخارجية، لا ارتباط له بدخول هذا الرئيس أو ذاك إلى قصر الإليزيه، ولا بتوجهات اليمين أو اليسار. ومع أن الفرنسيين كانوا يميلون تقليديا إلى المغرب، ربما بفعل عدة عوامل واعتبارات، تتعلق في جزء منها على الأقل بالتوجهات التي اختارتها الجزائر منذ الستينيات، فإن ذلك لم يمنعهم من أن يشعروا اليوم بنوع من عدم الاطمئنان التام إلى شريكهم المغربي. إن رواسب الماضي وتطلعات المستقبل تجثم بقوة وتجعلهم ينظرون إلى البلدين المغاربيين بكثير من الريبة. ولعل الاختلافات الظاهرة بين دولة ثورية، وأخرى محافظة أو ليبرالية، قد تبدو بالنسبة لهم مسألة ثانوية لا تشكل مسا، أو تهديدا صريحا لمصالحهم في المنطقة. وهذا هو العامل الحاسم الذي يحدد نطاق تحركاتهم، غير أن تلك المصالح لا تختصر وفق الرؤية الفرنسية في النواحي الاقتصادية، أو حتى السياسية، بل تغطي وفي الأساس الجوانب اللغوية والثقافية أيضا. وهنا فإنهم يعتقدون أن الجزائر لن تستطيع حتى لو حاولت المضي في التعريب، في وقت ما، أو استخدام الإنكليزية في وقت آخر أن تخرج وعلى المدى المتوسط على الأقل من الفلك الفرنسي. ومن الواضح أن الأثر العميق للحقبة الاستعمارية، لا يجعلهم يثقون في تطلع الجزائريين إلى فتح صفحة جديدة معهم، لذلك فإنهم يتعاملون بحذر واحتراز شديدين مع أكثر المسائل حساسية، وهي ملف الذاكرة لأنهم يدركون أن فتحه بطريقة ما سوف لن يعني دفن الماضي، كما يأملون بل إحياءه من جديد، وفي كامل المنطقة المغاربية، وهذا ما لا يمكنهم السماح به أو قبوله. كما أن ما يجعلهم غير مطمئنين للمغرب هو أن الرباط لم تعد تنظر للعالم بنظارة فرنسية، ولعل أخطر جملة مستهم في ذلك الجانب تلك التي قالها العاهل المغربي الصيف الماضي وهي أن «ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشركات». أما الكابوس الذي يقض مضاجعهم بالفعل فهو أن تعقب ما وصفها البعض، صورة العام بين الفريقين المغربي والجزائري للناشئين لكرة القدم، صورة أخرى لمصافحة مقبلة بين تبون ومحمد السادس. وفي تلك الحالة فانهم سيرثون وبلا شك حديقتهم الخلفية في افريقيا.