إستقالة السيد محمد مبديع من لجنة التشريع و الحريات و حقوق الإنسان هي الترجمة العملية والفعلية للتوجيه الملكي السامي في خطاب العرش الموجه إلى الطبقة السياسية بمختلف مشاربها حينما قال جلالة الملك محمد السادس في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش 2017 قائلا : “ كفى، وإتقوا الله في وطنكم ، إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا. فالمغرب له نساؤه ورجاله الصادقون” ..// إنتهى الإقتباس ؛ و قد أخلفت هذه الطبقة السياسية الموعد بعد دعوة الملك الصريحة لنفس الطبقة السياسية قائلا أعزه الله ” أدعو الأحزاب لتقديم مرشحين، تتوفر فيهم شروط الكفاءة والنزاهة ، وروح المسؤولية والحرص على خدمة المواطن. “..// إنتهى الإقتباس .
تسلل الأستاذ محمد مبدع إلى رئاسة لجنة العدل و التشريع وحقوق الإنسان في مجلس النواب في غفلة من الجميع بما تحمله هذه اللجنة الإستراتيجية من أهمية ورمزية و ماتعالجه من قوانين و إجراءات إدارية فلجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، أوكلها القانون التنظيمي لمجلس النواب الإختصاص في مجموعة من المجالات الحساسة المرتبطة بأوراش مفتوحة تراهن عليها الدولة بشكل كامل لتنزيل الرؤية الملكية المتبصرة في التنمية و تنزيل مخرجات النموذج التتموي الجديد كالعدل وحقوق الإنسان و العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، و تفعيل دور المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات؛ تاريخيا و منذ أول ولاية تشريعية في سنة 1963 تناوب على رئاسة هذه اللجنة قامات و كفاءات قانونية مشهود لها كالقيدوم المحامي محمد التبر رحمه الله و المرحوم الدكتور محمد جلال السعيد و القيدوم عبد القادر باينة و الدكتور عبد الحميد القاسمي و بالتالي فهذه اللجنة يهيمن عليها رجال القانون من المحامون كفئة كبرى بالإضافة الأساتذة الجامعيون في الحقوق، وبالاضافة رجال الإدارة من نواب و النائبات مما جلها لجنة تقنية و سياسية يجعل مستوى النقاش داخلها عالي في مجال القانوني و الدستوري، أكثر من باقي اللجان الدائمة الأخرى.
تسلل مبدع سبقه تسلل في واضحة نهار العمل الديمقراطي للعديد من الوجوه المدانة بشكل إبتدائي أو إستئنافي قانونيا وأخلاقيا و شعبيا إلى المجالس المنتخبة بشكل ديمقراطي بعد كل محطة إنتخابية متشبثين بقرينة البراءة كأحد أبرز مقومات المحاكمة العادلة و بقاعدة قانونية ذهبية تقول أن :” عبء الإثبات يقع على من يدّعي، ليس على من ينكر”.في هذا المقال لسنا في معرض مناقشة إجراءات قانونية أو أحكام قضائية أو التعليق على سير منظومة العدالة المغربية التي نثق في جديتها إحترامها لمسؤوليتها الدستورية بإحقاق العدل و الإنتصار
للمظلومين .
لكن كمواطن مغربي من دافعي الضرائب أكيد شعرت بالإحباط الشديد وأجد أن قمة العبث السياسي في هذا الوطن الأمين أن يصل شخص ما إلى رئاسة لجنة العدل و التشريع و حقوق الإنسان بمجلس الأمة كيفما كان إنتماؤه أو وضعه وهو موضوع شبهات و تحقيقات أمام القضاء و ممنوع من السفر إلى الخارج وذلك بسبب ملفات ثقيلة وشبهات رصدها المجلس الأعلى للحسابات ومفتشية وزارة الداخلية في تسيير الجماعة التي يديرها لعقود.
محاربة الفساد و تكريس هيمنة الحكامة الرشيدة هو جزء لا يتجزأ من الإختيار الديمقراطي الذي يعتبر أحد الركائز الدستورية التي تحدد طبيعة تفاعلاتنا داخل المجتمع و على أساسه تتحدد رؤيتنا الأخلاقية لشتى المواضيع و المواقف و الإختيارات التي تواجهنا بشكل يومي .
و للأسف هذا ما فشل فيه نواب الأمة بتصويتهم على السيد محمد مبديع كرئيس لجنة العدل و التشريع وحقوق الإنسان داخل مجلس النواب في جلسة برلمانية مكتملة الأركان الديمقراطية فكل نائب برلماني صوت على السيد محمد مبدع لتولي رئاسة اللجنة فقد شارك بقصد أو غير قصد بشكل غير مباشر في تكريس صورة مغايرة لما تعيشها بلدنا من ديناميكية متعددة الأبعاد لمكافحة الفساد و تخليق الحياة العامة تؤطرها الخطب الملكية في هذا الشأن .
لن نتوقف كثيرا عند السيد محمد مبديع فأكيد أنه يحظى بمحاكمة عادلة تضمن حقوقه الدستورية و كل مانتمناه هو أن تظهر براءته من كل التهم المنسوبة إليه .
إذن هذا الحدث ” البرلماني ” هو بمثابة جرس أنذار مبكر إلى كل التنظيمات و النخب السياسية بوجوب تطهير هياكلها من كل مشتبه فيه بسرقة و تبديد المال العام أو إستخدام منصبه لتحقيق مكاسب ذاتية ضيقة أو أهداف إنتخابوية و سياسوية بئيسة .
في هذا البلد الأمين لكي يشتغل الشاب المغربي في وظيفة حارس أمن خاص ( إن وجدها ) براتب دريهمات أقل من الحد الأدنى للأجور و بدون تغطية صحية و لمدة 12 ساعة في اليوم في ظروف أقل ما يقال عنها لا إنسانية وجب عليه إحضار شهادة
“حسن السيرة و السلوك ” تكون نظيفة بالإضافة إلى شروط أخرى بينما لتولي منصب رئيس جهة أو برلماني بتعويضات سنوية تصل لملايين السنتيمات تكفيك تزكية رئيس الحزب و قدرتك على التموقع في الهندسة الإنتخابوية بإمكانياتك و شبكة علاقاتك و المشاركة بشكل ديمقراطي و قانوني في إطار القانون و التشبث بقرينة البراءة في عملية العبث بكل مقومات العمل السياسي الجدي و المسؤول .
نتذكر جميعا ” تحياح ” برلماني في لجنة المالية بمجلس النواب في مشهد عبثي كافكاوي و هو المتابع سابقا في جرائم تبديد المال العام و رئيس جهة يوقع الشراكات الدولية و يؤشر على الميزانيات وهو المتابع في قضايا فساد و أخت رئيس جماعة تتنازل لأخيها البرلماني عن المتابعة ” قانونيا ” على سنوات من الفساد و العديد من النماذج و المواقف و الأحداث البئيسة التي لا تشرف العمل السياسي أو النيابي و تشكل وصمة عار حقيقية في تاريخنا السياسي الحديث ؛ فالسبيل الوحيد أمامنا لوقف هكذا ممارسات تهدد المسار الديمقراطي الذي يسير فيه بلدنا هو تأمين الشفافية وتكريس الحكامة في العمل الحكومي و الجهوي و المحلي و تعزيز فرص المساءلة داخل الشركات و المؤسسات الخاصة و تشجيع ثقافة النزاهة و المسؤولية في المجتمع و العمل على تدريب العاملين في هذه الجهات على الأخلاقيات المهنية والمعايير الدولية للمكافحة الفعالة للفساد و تكريس دور آليات الإنتصاف الوطنية في إطار الدفع بالاستراتيجيات الوطنية والسياسات العمومية المتعلقة بالوقاية من الفساد ومحاربته .
مكافحة الفساد بالمغرب يجب أن يتحول إلى ورش مفتوح و مستدام بشكل متوازي و بنفس السرعة التي تسير فيها باقي الأوراش الإجتماعية و الإقتصادية و التنموية ، لا يمكن أن يتحول شعار مكافحة الفساد و الإستبداد إلى مزايدات سياسوية أو مجرد شعار مستهلك في البرامج الإنتخابية لحشد أصوات الفقراء و المحتاجين و ذغذغة مشاعرهم بالخطب الهلامية و الوعود الكاذبة كما عشناها في تجارب حكومية سابقة عندما تحولت كل الشعارات إلى حبر على ورق و تم تعويض مبدأ ربط المحاسبة بالمسؤولية بمبدأ هجين في العرف الديمقراطي هو “عفا الله عما سلف” , و هو ما أكد عليه جلالة الملك في خطاب سابق قائلا : ” وهنا يجب التأكيد أن محاربة الفساد لا ينبغي أن تكون موضوع مزايدات.” إنتهى الإقتباس .
في نفس الوقت لا يمكن لعاقل أن ينكر المجهودات الكبرى التي تقوم بها الدولة و مؤسساتها حاليا في سبيل مكافحة الفساد و مأسسة سبل مواجهته و الحد من آثاره فقبل أيام إستقبل السيد عزيز أخنوش رئيس الحكومة السيد محمد بشير الراشدي رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها في لقاء كان الهدف الأساسي منه هو بحث توفير الشروط المثلى لتنسيق العمل الوطني لمكافحة الفساد و العمل أيضا على إطلاق دينامية قوية لمكافحته ، تنخرط فيها كل السلطات والمؤسسات والفاعلين الإقتصاديين والمجتمعين المعنيين، في إطار من التكامل والتناسق المؤسساتي و قبلها بأيام أصدر رئيس الحكومة قرارا بتعيين أعضاء اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد .
فالفاسد قد يصل إلى كرسي التدبير العمومي بشكل قانوني و بموقف غير أخلاقي نتيجة تواطئات مكشوفة من طرف منظومة حزبية فاسدة و مساهمة مباشرة بالصمت المكشوف للإعلام المحلي النصف أمي بأقلامه المرتعشة الجافة ،فماذا ننتظر من إعلامي بدون موقف و غير قادر على توفير قوت يومه إلا بالإسترزاق و غير قادر على الإبداع إلا بإستعراض التدوينات المليئة بالأخطاء الإملائية في منصات التواصل الإجتماعي ، إلى جانبه تقف عناصر غير فاعلة و فاشلة في المجتمع المدني تعيش على أموال الدعم العمومي و البهرجات و الحفلات التنكرية و الأنشطة المضحكة الكاريكاتورية لتبديد المال العام في تنصل تام لدور دستوري وواجب وطني مقدس فقد نص دستور المملكة لسنة 2011 في عدد من بنوده على دعم كل الآليات التي من شأنها ترسيخ قيم الشفافية وتعزيز النزاهة والإنصاف والحكامة الجيدة ومكافحة كل مظاهر الفساد من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك من أجل الحفاظ على الأموال والممتلكات العمومية.
مكافحة الفساد و تطهير المجتمع من الفاسدين و المفسدين هو واجب على مواطن يعيش فوق هذه الأرض المقدسة كل من موقعه لأن هذه الظاهرة الدخيلة على مجتمعنا كما قال جلالة الملك : “الفساد ليس قدرا محتوما، ولم يكن يوما من طبع المغاربة ، غير أنه تم تمييع إستعمال مفهوم الفساد، حتى أصبح وكأنه شيء عاد في المجتمع.” إنتهى الإقتباس ..// فالعودة لقيم تمغربيت و التشبث بتقاليدنا الأصيلة الرافضة لكل مظاهر الغش و السرقة و إستغلال النفوذ و التلصص و التربح خارج القانون والعمل بشكل جماعي وفق الضوابط الدستورية يظل الحل الممكن الوحيد أمامنا للعبور بوطننا العزيز لى مصاف الدول الحامية لحقوق مواطنيها حيث أكد جلالة الملك على هذا الدور الجماعي قائلا : ” ولا أحد يستطيع ذلك بمفرده، سواء كان شخصا، أو حزبا، أو منظمة جمعوية بل أ كثر من ذلك، ليس من حق أي أحد تغيير الفساد أو المنكر بيده خارج إطار القانون فمحاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع: الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضرب بقوة على أيدي المفسدين ، والمجتمع بكل مكوناته، من خلال رفضها، وفضح ممارسيها، والتربية على الابتعاد عنها، مع استحضار مبادئ ديننا الحنيف، والقيم المغربية الأصيلة، القائمة على العفة والنزاهة والكرامة.”
و الله غالب على أمره.