حُمى القيادة تتفشّى في الجيش الجزائري
خلال الأسبوعين الماضيين، ترقبتُ أن تبث قناة “الجزيرة” الحلقة الثالثة من حوارها مع عبدالمجيد تبون الرئيس، المنتدب، للجزائر، لكنها لم تفعل، ربّما، لأن الرئيس نفسه صرف النظر عن مواصلة الحوار، بعد إعلان خديجة بنقنة، الصحفية الجزائرية التي رافقته في حلقتي حديثه، أن جدّتها مغربية، من طنجة، هو الذي يرى المغاربة أعداء “مُتربصين” بالجزائر في يقظته وفي كراه. وها هي الجدّة المغربية للصحفية، تندسّ له، في مَكْلَمَتِه مع الجزيرة، ولعلها ستفسد عليه طلاقته، وتفقده لذّة مُواصلة “نميمته” ضدّ المغرب، لو أقدم على اقتراف الحلقة الثالثة.
صَوْمُ الرئيس عن الكلام أدّى إلى شُحوب السيّاسة الجزائرية، بسبب وقف تغذيتها بالدُّعابة الرئاسية التي تُميِّزها، وخَلا الجوّ لرئيس أركان الجيش الفريق سعيد شنقريحة، لكي يستعرض جهامته في العرض السياسي الجزائري، خلال أيام توقف تبون عن الكلام “المُباح”. ورئيس أركان الجيش في الجزائر هذا الحالي، هو كخلف القايد صالح، ينْفرد عن العسكريين رؤساء أركان الجيوش في العالم، بأنه يهوى الخطابة في الثكنات. ويتحدث كرئيس دولة، بتوجيهات سياسية، يؤكد بها رئاسة الجيش للدولة، وهو تذكير للرئيس تبون قبل غيره.
رئيس الأركان خَطَب ثلاث مرات من قواعد عسكرية، ونقلها الإعلام الجزائري. الخطبة الأولى في اجتماعه مع قيادة أركان الدرك الوطني، والخطبة الثانية في اجتماعه مع قيادة أركان الحرس الجمهوري، والخطبة الثالثة في قاعدة قيادة قوات الدفاع الجوي. في تلك الخُطب، نبرة الفريق أول كانت في أعلى درجات حدّيتها، وهو يُحذّر من “المؤامرات التي تحاك ضد الجزائر”، من داخلها ومن خارجها.
◙ بلاغ الرئاسة عن الأوضاع العامة في البلاد هو إنذار بخطورة الأوضاع وتمهيد لإعلان حالة التعبئة العامة بين الجنرالات، توحدهم في مسؤوليات مواجهة الاضطرابات الأمنية وتفرض عليهم التهدئة في منافساتهم
أمام أُطر الدّرك الوطني تحدث عن “الأدوار الحسّاسة للدّرك في الظروف غير العادية لمنطقتنا الإقليمية”، وأبرز اختصاص الدرك في مُحاربة “الجريمة المنظمة”، وحثّ، الأطر أمامه، على التصدّي لتصاعد الإجرام الرقمي والذي يمسُّ الأمن الوطني الجزائري.
وأمام أطر الحرس الجمهوري، الفريق أول شنقريحة، ناشد “كل مُخْلص للجزائر لتوطين أمن وترسيخ موجبات السّلم”. وحثّ على التّلاحم، “إفشالا للدسائس ومكائد أعداء الشعب الجزائري”.
وأمام قوات الدفاع الجوي كان أكثر وضوحا، بالحديث عن “عودة المُتشددين الإسلاميين لنشاطهم الإجرامي” والذي يُذكّر بأحداث العشرية السوداء، وتَوَعَّدَهم بمُوَاجهتهم حفاظا على “دولة الجزائر، التي نتجت عن حرب التحرير”.
مجمل أو حاصل مداخلات رئيس الأركان، أن الجزائر في وضع اضطراب أمني، يهُزُّ أركانها من داخلها ومن خارجها. وطبعا ليس شنقريحة هو من يجرُؤُ على القول بأن عصابة الجنرالات، المُسَيْطرة على حكم الجزائر، هي المصدر الأول للمخاطر التي تنفجر على البلاد ومن داخلها أساسا، وما “التهديدات الخارجية”، إلا من تداعيات وامتدادات السياسات الداخلية لحكام الجزائر، وشنقريحة واحد منهم. وهو ليس أوّلهم ولا أهمّهم، ولو أن مداخلاته كشفت عن قلق حقيقي، لدى جنرالات الحكم الجزائري من انفلاتات أمنية، بالغة الخطورة في أوضاع الجزائر، ولعلّ ذلك ما أوجب عقد المجلس الأعلى للأمن، والذي، حسب قانونه، ينعقد “في دورة عادية كلما اقتضت الحاجة ذلك للبث في كل مسألة ذات بعد داخلي أو خارجي تتعلق بالأمن الوطني”.
الاثنين الماضي، رأس عبدالمجيد تبون المجلس الأعلى للأمن، بصفته “رئيس” الجزائر ووزير الدفاع في حكومتها. الاجتماع تم بحضور كافة أعضائه من الحكومة والجيش والأمن والمخابرات، إلا المقررين الفعليين في تدبير الشأن الجزائري، وهم جنرالات الخلية السرية الحاكمة الفعلية، بهدف “تقييم الوضع العام في البلاد”، وهو ثاني اجتماع له في أقل من شهرين. الوضع العام في البلاد على هذه الدرجة من الخطورة، بحيث يستدعي الإعلان عن “عقد المجلس الأعلى للأمن”!
المكوّنات العسكرية والأمنية للمجلس تجتمع وتُنَسِّق يوميا لتدبير الشأن العام الجزائري، وتحت إشراف القيادة الثلاثية لكل من الجنرالات نزار، توفيق وجبار، وتتخذ القرارات السارية المفعول بالدمغة الحكومية عليها، وعند الاجتماع الرسمي للمجلس، تنضم إليه المكونات الحكومية والرئيس، فقط لتوجيه رسالة سياسية أو رسائل، خاصة للمحيط الخارجي للجزائر ولأطراف علاقاتها فيه، لأصدقائها وهم قلة، والذين تخاصمهم أو تعاديهم وهم كثر.
الأوضاع الداخلية للجزائر هي من الاضطراب ومن التوتّر ومن قابلية التفجر، بحيث تفرض اجتماعات للمجلس الأعلى للأمن بوتيرة متواصلة ومتقاربة. احتكار الجنرالات للحكم في الجزائر، أنتج حالة خُصومة للدولة مع شعبها (عكسته المشاركة المحدودة في الاستفتاء وفي الانتخابات للسنوات القليلة الماضية)، مع فئاته الدنيا والمتوسطة التي تعاني من خَصاصات ومُعضلات، في الشغل، في الخدمات العامة، في حقوق المواطنة الدنيا وفي المواد الأولية للعيش حتى، ولها خصومة مع “الرأسمالية” الجزائرية، الناشئة، في أجواء المنافسة، غير المتكافئة، مع الأولغارشية العسكرية، ولها خصومة مع منطقة القبائل على مستوى الهوية الثقافية والانتماء الوطني، ولها خصومة مع أطر وقواعد الجيش الوطني نفسه، الذي يتحمل متاعب ومشاق مسؤولية البلاد، بقَضِّها وقَضيضِها، مع استحالة تعميم فوائدها ومغانمها على كل مكوناته.
كل هذا “الكوكتيل” من الخصومات لدولة الجنرالات في الجزائر، وتضاف إليه الكُلْفة المالية، الأمنية والدبلوماسية، لعداء العصابة العسكرية للمغرب، والمُشاغبة ضده عبر الحركة الانفصالية حول الصحراء المغربية، أو عبر قطع كل الصِّلات والحُدود معه، وهي كُلفة تفاقم تأزّم أوضاع الجزائر، داخليا وفي علاقاتها الخارجية.
والاضطراب الأمني هو أبرز تمظهُرات ذلك التأزُّم. لتجد العصابة العسكرية الحاكمة في الجزائر نفسها أمام تعدُّد بُؤَر ومُستويات التوترات والمخاطر الأمنية، وقد امتدت إلى داخل أروقة الحكم نفسها، بما يعطل البطارية المركزية في “حرب” الاستقرار والأمن التي يخوضها جنرالات القيادة الجزائرية.
◙ رئيس أركان الجيش في الجزائر هذا الحالي، هو كخلف القايد صالح، ينْفرد عن العسكريين رؤساء أركان الجيوش في العالم، بأنه يهوى الخطابة في الثكنات
ولعل اجتماع المجلس الأعلى للأمن، والإعلام به، يهدف إلى تسويق انسجام، بل تلاحم مكونات النظام، المدنية والعسكرية وما بين عناصر المكون العسكري نفسه. والتدافع العسكري – العسكري، هو ما يهدد النظام أكثر، ولهذا أدى الفريق شنقريحة ثلاث زيارات تفقدية لثلاث قيادات لمكونات الجيش الوطني، في أسبوع، وخلالها مدح قادتها وأشاد “بمنجزاتهم” في تدبير قطاعاتهم.
كما أن حديث بلاغ الرئاسة عن “الأوضاع العامة في البلاد” هو إنذار بخطورة الأوضاع، وتمهيد لإعلان حالة التعبئة العامة، خاصة بين الجنرالات، تُوَحِّدهم في مسؤوليات مواجهة الاضطرابات الأمنية، وتفرض عليهم التهدئة في منافساتهم وفي المشاحنات بينهم، الناتجة عن تبايُن تقويماتهم لمُجريات الأوضاع وعن صراعات التطلُّعات والمصالح، الغريزية في بنية الجيش الجزائري، منذ تأسيسه، امتدادا لجبهة التحرير الوطني، واجتماع المجلس الأعلى للأمن هدف إلى بعث رسالة طمأنة على وحدة القيادة، المدنية والعسكرية، ضدا على ما يتسرب من حُمى التدافع داخل المكون العسكري، تنبئ بتصدعات في النظام برمته.
معلوماتي، من مصادر جزائرية مُطّلعة، تقول بأن صمت الرئيس غير عادي، وقد يكون أفهم بالتزامه في هذه الظرفية الحساسة. وتقول مصادري أيضا، بأن اجتماع مجلس الأمن غير عادي، وستكون له امتدادات في أوضاع قيادة الجيش، وتضيف المصادر بأن الخلية القيادية الحاكمة الفعلية تحضّر لتغييرات في أركان الجيش، وقد يكون المستفيد منها الجنرال ماجور يحيى علي أولحاج، قائد الدرك الوطني، والذي يقود اليوم “جيشا” من الدرك، تعداده 180 ألف عنصر، عدا عن أنه أصغر قادة الجيش بسن 59 سنة، ويتمتع بعناية الجنرالين توفيق ونزار.
وسيكون ذلك حتما، على حساب الفريق أول شنقريحة، الذي على ما يبدو استنفد مدة صلاحيته في رئاسة أركان الجيش، وقد يفيد إبعاده منها بأن تتحسن، ولو لبعض الوقت، صورة النظام لدى الرأي العام الجزائري، في محاولة أخرى لإنقاذ سفينة قيادة الجنرالات من الغرق بمن فيها.