المغاربة والحرب الأهلية الإسبانية
عديدة هي المحطات والأحداث التاريخية الإسبانية التي يحضر فيها المغرب وبجدل عميق لا ينمحي أحيانا من الذاكرة، بل يتحول إلى عنصر رئيسي في المخيال الشعبي الإسباني، لاسيما بعدما تحول هذا المغربي بعد سقوط غرناطة إلى الوريث المباشر للمسلم والعربي والأمازيغي والموريسكي، الذي استوطن وشيد حضارة راقية في الديار الأوروبية.
ومن ضمن هذه الفصول التي تحضر سلبا في المخيال الإسباني، الحرب الأهلية، وإن كان الجانب الإسباني هو الذي يتحمل وزرها، بسبب إرغام المغاربة على المشاركة فيها ما بين سنتي 1936-1939. وكان هذا الموضوع حبيس التحليل والرأي والتأويل الإسباني، غير أن المغاربة بدأوا تدريجيا يتطرقون له، ومن ضمن ذلك كتابات المؤرخ المغربي مصطفى المرون.
عملت الإدارة الاستعمارية، سواء الفرنسية أو الإسبانية على الزج قهرا بالمغاربة في حروب لا علاقة لهم بها
وعلاقة بهذه الحرب، كان التاريخ الرسمي الإسباني الذي يلقن في المدارس والجامعات والكتب، التي يتم الترخيص بنشرها إبان حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو 1939-1975 يرفع من شأن المشاركة المغربية في هذه الحرب، ويعتبر الجنود المغاربة أبطالا ساهموا في إنقاذ إسبانيا من الشيوعية. وهذا الطرح يتماشى والرؤية الفرنكاوية للرواية التاريخية الوطنية التي خطها المنتصر، واعتبرت انتصار الوطنيين القوميين على اليسار والجمهورية انتصارا ربانيا، وبالتالي، يستحق كل من شارك في هذا الانتصار، التعظيم بمن فيهم المغاربة، رغم اختلاف عقيدتهم الدينية. وكان الجنرال فرانكو هو المنتصر، وكان كل تشكيك في دور الجنود المغاربة الذين ساعدوه، هو تشكيك في الانتصار وفي الرواية الوطنية الرسمية السائدة وقتها. وفي المقابل، سادت النظرة السلبية في صفوف اليسار المنفي في أوروبا وأمريكا اللاتينية إلى الدور المغربي في الحرب. ولم ينتج المنفى الإسباني دراسات تتميز بالشرط العلمي حول دور المغاربة في الحرب الأهلية، بل اكتفى بخطاب تبسيطي يتهمهم بالممارسات الوحشية، علما أنهم كانوا ضحايا الاستعمار الإسباني. ولا يمكن فصل جزء من الأحكام المسبقة لفئة عريضة في اليسار الإسباني تجاه المغرب عما تشكله الحرب الأهلية في مخيالهم. ومع بدء الانتقال الديمقراطي سنة 1975، عمد المؤرخون الجدد إلى تفكيك الرواية التاريخية، التي فرضها نظام فرانكو وتقديم بديل يصنّف الحقبة الفرنكاوية بالدموية، وما زالت إسبانيا حبيسة هذه الحرب، بما في ذلك مشاريع قوانين تهدف الى إنصاف الضحايا أو الجانب المنهزم. وكانت الرغبة في إعادة كتابة التاريخ قوية، ورافقها بشكل محتشم في البدء، مطلب ضرورة إنصاف الضحايا. وهو مطلب ما زال عالقا وعالجه بجرأة رئيس الحكومة الاشتراكي خوسي لويس ردريغيث سبتيرو (2004-2011)، ثم بيدرو سانتيش بعد توليه رئاسة الحكومة سنة 2018 من خلال تقديم مقترحات سياسية مؤطرة، ضمن ما يعرف في هذا البلد بـ»الذاكرة التاريخية». وتنص على إنصاف ضحايا الحرب الأهلية مثل التنقيب عن رفات المفقودين، وتغيير أسماء شوارع وساحات البلاد، التي تحمل أسماء ضباط رافقوا الجنرال فرانكو. ولم تتردد المدرسة التاريخية البديلة وأغلب مؤرخيها من اليسار في وصف الجنود المغاربة بالوحوش لارتكابهم جرائم حرب من تقتيل واغتصاب. وتركت مشاركة المغاربة ذكرى سيئة في مخيلة جزء كبير من الإسبان، خاصة في صفوف المنهزمين، حيث نسجت حكايات تقترب من الأسطورة حول وحشية المغاربة، والواقع أن مشاركة المغاربة في الحرب كانت عنيفة جدا، ولا يمكن تبرير هذه الجرائم، غير أنها لم تكن تقل بشاعة عن الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسبان، سواء أنصار الجمهورية أو أنصار فرانكو. ويجب الأخذ بعين الاعتبار السياق الذي جاءت فيه عملية التجنيد القسري التي تعرض لها المغاربة، فقد كانوا ضحايا بدورهم. وعلاقة بهذا، فقد كان المغرب فاقدا للسيادة، وعملت الإدارة الاستعمارية، سواء الفرنسية أو الإسبانية على الزج قهرا بالمغاربة في حروب لا علاقة لهم بها. وقامت فرنسا بنقل المغاربة للمشاركة في الحرب العالمية الأولى والثانية، وكذلك في حروب في مستعمراتها مثل فيتنام. ومن جانبها، قامت الإدارة الإسبانية في المغرب بتجنيد الشباب المغربي في شمال المغرب للمشاركة عنوة في الحرب الأهلية الإسبانية. وتبقى الكتابة التاريخية الإسبانية غير منصفة للمغاربة، فمشاركة الجنود المغاربة لم تحدث فقط مع الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية ما بين 1936-1939، بل حدثت كذلك في ظل النظام الجمهوري. فقد أرسل رئيس الحكومة أليخاندرو ليروكس الجنود المغاربة رفقة جنود إسبان للقضاء على انتفاضة أستورياس شمال غرب البلاد، خلال أكتوبر 1934. ومن المفارقات هو تعيين حكومة ليروكس الجنرال فرانكو وقتها لقمع الانتفاضة المذكورة. وتحولت انتفاضة أستورياس إلى أسطورة لدى اليسار الإسباني. وكانت مشاركة الجنود المغاربة في قمع انتفاضة أستورياس المختبر لتجريب الجنود القادمين من وراء مضيق جبل طارق، لحسم قضايا داخلية إسبانية. ومنذ طرد الموريسكيين سنة 1609 وحتى العشرينيات من القرن العشرين، جرت كل الحروب التي وقعت بين المغرب وإسبانيا في الأراضي المغربية، وكانت الحرب الأهلية هي الأولى التي يحارب فيها المغاربة في الأراضي الإسبانية. وفاقم هذا الوضع من الطابع الأسطوري للمشاركة المغربية في الحرب الأهلية. ومن مفارقات التاريخ، كانت المواجهة الدينية عاملا رئيسيا ضمن عوامل أخرى في الحروب السابقة، وفي الحرب الأهلية تحالف المغاربة المسلمون مع قوات فرانكو المسيحية لمواجهة من كان يتم وصفهم بـ»القوات الملحدة» التابعة للجمهورية. ووظفت السلطات الاستعمارية الدين لتجنيد الشباب المغربي في صفوف الجيش الإسباني مبررة خطابها بتحالف الأديان لمواجهة «أعداء الله». ووجد هذا الخطاب ترحيبا بحكم إيمان المسلمين بالكتب السماوية اليهودية والمسيحية، وكتب الجنرال فرانكو عن مشاركة المغاربة في الحرب الأهلية بأن الشعب المغربي شجاع ومتدين مثله مثل الإسباني، وانخراطه في الحرب يعود إلى جذور عميقة. وكان يعني بالجذور العميقة هو الإيمان برب واحد. لقد حان الوقت لكي يعيد المؤرخون الإسبان تقييم مشاركة المغاربة في الحرب الأهلية، نعم الحرب صورة مجسدة لوحشية الإنسان بسبب الرغبة الجامحة في الانتصار، وكانت وحشية الجنود الإسبان، سواء أنصار الجمهورية أو النظام العسكري أكثر فظاعة بحرق رجال الدين والكنائس والتمثيل حتى بالنساء. لقد كان الجنود المغاربة وأغلبهم شباب يافع فاقد لإرادة القرار، فقد كان المغرب تحت الاستعمار، وهذا فصل على الطبقة السياسية والمثقفين في المغرب فتحه في مخاطبة إسبانيا وفرنسا، لأن عشرات الآلاف من المغاربة لقوا حتفهم في حروب تم إرغامهم وإجبارهم على المشاركة فيها عنوة. إنه الوجه الآخر المسكوت عنه للاستعمار الأوروبي.