حسابات الداخل والخارج تلقي بظلالها على زيارة الرئيس الجزائري إلى فرنسا
يثير تأجيل الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون زيارته إلى فرنسا تأويلات كثيرة، لاسيما أن أيا من الطرفين لم يقدم أسبابا حول دواعي هذا التأجيل، ومن بين التأويلات المطروحة غياب حماسة المؤسسة العسكرية الجزائرية للتقارب مع باريس خشية أن يؤثر ذلك على العلاقات الوثيقة مع روسيا.
لا تزال الدوافع التي أدت إلى تأجيل زيارة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى فرنسا إلى يونيو المقبل قائمة، فإلى جانب توازنات الداخل وغياب الإجماع في هرم السلطة حول طبيعة وشكل العلاقات مع باريس، فإن موقف الجزائر من الأزمة الأوكرانية يزداد حرجا مع اقتراب موعد زيارة تبون إلى موسكو.
ويبدو أن قصري المرادية والإليزيه لم تعد تهمّهما مخرجات الزيارة، بقدر ما يهمّهما أن تتم، فعلاقات البلدين لم تعد تحتمل المزيد من التذبذب والغموض، خاصة من الجانب الفرنسي، حيث عبرت دوائر سياسية وإعلامية عن امتعاضها مما أسمته “مجاراة الإليزيه لعلاقات ميؤوس منها، بسبب طبيعة النظام السياسي الحاكم في الجزائر” بحسب تحليل أوردته مؤخرا صحيفة “لوفيغارو”.
وأعلنت الرئاسة الجزائرية في بيان الأحد أن الرئيس تبون سيزور باريس في النصف الثاني من شهر يونيو، بعد أن كانت الزيارة متوقعة في مايو.
وجاء في بيان صادر عن الرئاسة أن تبون تلقّى مكالمة هاتفية من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتهنئة بعيد الفطر. وتطرّق الرئيسان، وفق البيان، إلى “العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها، بما في ذلك زيارة الدولة لرئيس الجمهورية إلى فرنسا واتفقا على النصف الثاني من شهر يونيو المقبل موعدا لها”.
قصرا المرادية والإليزيه لم تعد تهمّهما مخرجات الزيارة بقدر أن تتم، فعلاقات البلدين لا تحتمل المزيد من التذبذب
وتابع البيان “العمل جارٍ ومتواصل من فريقي البلدين لإنجاح” الزيارة التي ستأتي بعد عشرة أشهر من زيارة الدولة التي قام بها ماكرون إلى الجزائر في خطوة لتحسين العلاقات التي تدهورت في خريف 2021.
وفجر تأجيل زيارة تبون إلى باريس والتي كانت مقرّرة في مايو وفق ما كان متفقا عليه بين الطرفين، موجة من التأويلات المتضاربة حول الأسباب والخلفيات التي حملت البلدين على تعديل البرنامج، وتم طرح العديد من الفرضيات، خاصة وأن الجانبين لم يصدر عنهما أي موقف أو تعليق رسمي حول ما بادرت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية بالكشف عنه خلال الأسبوع الماضي.
ولو أن الصحيفة تحدثت عن اتفاق بين الجانبين حول تأجيل الزيارة، إلا أن القرار المفاجئ وتعتيم الطرفين على المسألة فتحا المجال أمام فرضيات أخرى مثل إلغاء الزيارة أصلا بسبب خلافات تكون قد طفت إلى السطح بينهما، الأمر الذي أعاد طرح طبيعة ونوعية العلاقات الجزائرية – الفرنسية مجددا، بعد الهدوء الذي ميزها في الآونة الأخيرة، رغم الزوبعة التي أثارتها قضية الناشطة المعارضة الفرنسية – الجزائرية أميرة بوراوي.
واعتبر الإعلامي المعارض هشام عبود المقيم بباريس والمصنف ضمن لائحة الإرهابيين المعلنة العام 2021 في الجزائر، في مقال له بمجلة “أتالايار” أن “رموز المؤسسة العسكرية هم الذين ضغطوا من أجل تأجيل زيارة الرئيس تبون إلى باريس”، وذلك في إشارة إلى كبار ضباط المؤسسة العسكرية.
وذكر بأن “العسكريين للجزائريين لا يريدون التقارب بين الجزائر وفرنسا بسبب ميولاتهم الأيديولوجية نحو الروس، وأنهم أقنعوا الرئيس تبون بأن الملفات الإستراتيجية غير جاهزة خاصة في ما يتعلق بالذاكرة، والموقف النهائي من الأزمة الأوكرانية، وأن الفرنسيين يهمهم كثيرا استقطاب الجزائر إلى المقاربة الغربية على حساب مصالحها وعلاقاتها التاريخية مع روسيا”.
في حين ذهب آخرون إلى القول إن الطرف الجزائري أراد فرض إجراءات تشريفية صارمة على الفرنسيين خلال زيارة الرئيس تبون، بسبب معطيات لديهم حول تحضيرات شرع فيها معارضون للسلطة في الحراك الشعبي وحركة انفصال القبائل (ماك) من أجل التشويش على الزيارة والقيام بحركات احتجاجية تحرج الوفد الجزائري، وهو ما لم يكن بوسع الفرنسيين تلبيته للاعتبارات السياسية والديمقراطية الناظمة والتي لا تحرّم حرية التعبير والرأي.
ويكون تزامن الزيارة المؤجلة مع زيارة منتظرة إلى موسكو قد وضع القيادة السياسية بالجزائر في موقف حرج، بسبب تموقعها بين طرفي الصراع في الأزمة الأوكرانية، وخطاب الحياد الذي تتبناه الدبلوماسية الجزائرية يكون قد بلغ مداه ولا يمكن له الصمود أكثر، لأن باريس وموسكو تريدان افتكاك موقف حقيقي من الجزائر، وكلتاهما تريد للأخرى فك الارتباط مع الجزائر.
وكانت آخر إشارة من الرئيس الجزائري إلى زيارته إلى موسكو قد صدرت في تصريحه لقناة “الجزيرة” القطرية حيث أكد على أنه سيكون في موسكو خلال شهر مايو، وهي زيارة دولة يعول عليها كثيرا لتعزيز علاقات التعاون وإبرام اتفاقية “تعاون إستراتيجي عميق”، رغم حساسية الموقف الإقليمي والدولي.
وأعرب الرئيس تبون عن تفاؤله بترحيب موسكو بانضمام بلاده إلى تكتل “بريكس”، وهو طموح يراود السلطات الجزائرية منذ سنوات، مستغلة في ذلك تقاربها مع أغلبية أعضائه، لكنها في المقابل لا تريد تضييع شراكتها وتعاونها مع الأوروبيين والأميركيين.
وجاء اجتماع لجنة الذاكرة المنصّبة حديثا ليقدم خدمة في سبيل تحسن العلاقات بين البلدين خاصة في ملف الذاكرة الشائك، حيث اتفق الطرفان على “النظر في الفترة التاريخية الممتدة بين بداية الاستعمار سنة 1830 إلى الاستقلال في 1962”.
وضمت اللجنة من الجانب الجزائري خمسة مؤرخين هم محمد القورصو، ولحسن زغيدي، وجمال يحياوي، وعبدالعزيز فيلالي، وإيدير حاشي برئاسة عبدالمجيد شيخي مستشار الرئيس تبون، ومن الجانب الفرنسي، بنجامان ستورا، مع عضوية المؤرخين فلورانس أودوفيتز، وجاك فريمو، وجون جاك جوردي وترامور كيمونور.
وذكر بيان الرئاسة الجزائرية بأن “الاجتماع الأول جرى عبر الإنترنت، وأن الجانب الجزائري قدم ورقة عمل وفق المبادئ الأساسية الواردة في بيان الجزائر الموقع بمناسبة زيارة الرئيس ماكرون، وكذلك بيان اللجنة الحكومية المشتركة رفيعة المستوى التي انعقدت في الجزائر في أكتوبر الماضي”.