خدعة البرهان الجديدة في السودان.. ديمقراطية، ولكن تحت ظلال الجنرالات
إذا كان يصعب على الأطراف الخارجية أن تنحاز إلى طرف في الصراع الدائر بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، فإن “المكوّن المدني” لا يحق له أن يبقى على الحياد. ثمة ثمن يجب أن يُدفع للحياد.
الأطراف المدنية التي توافقت في ما بينها على إطار لتولي السلطة، تتخلى عن حقها إذا ما عجزت عن أن تتلقى الثمن. ليس مطلوبا منها أن تكون طرفا ثالثا في النزاع، ولا أن تدعم طرفا دون الآخر، ولكنها تستطيع أن تدافع عن حقوقها، وأن تجعل من هذه الحقوق قيدا مسبقا على الطرفين المتحاربين معا.
عودة السلطة المدنية، وانسحاب الجيش إلى الثكنات، أمران يفترض أن يكونا خارج النقاش. وهما أمران يحسن التأكيد عليهما بوصفهما أساسا لن يمكن التخلي عنه، كائنة ما كانت النتيجة من الحرب القائمة. هذا التأكيد مفيد لكي يفهم الطرفان المتصارعان معا، حدود ما قد يسعيان إليه بعد انقضاء المعركة.
أحزاب المكون المدني تعرف طرفي النزاع جيدا. تعرف مَنْ منهما يريد الانقلاب على “الاتفاق الإطاري”. كما تعرف أيهما أقرب إلى الثورة التي أطاحت بسلطة عمر البشير، وأيهما أكثر جدارة بالثقة من سواه. إلا أنها ليست مضطرة، في خضم هذه المعركة، إلى مساندة أحد منهما منهما لأن تماسكها نفسه سوف ينهار، فيزيد النار حطبا. ولكن، ما لا مفر منه هو أن تظهر كقوة مستقلة قادرة على أن تدافع عن حقوقها، بصرف النظر عن أي نتيجة قد تسفر عنها المواجهات.
◙ لا حاجة إلى “نظرية مؤامرة” لكي تربط بين البرهان وبين فلول النظام السابق فالجيش كله من فلول النظام السابق يتلون وينحني للعاصفة إلا أن مصالح قياداته مرتبطة بإحكام بمراكز الفلول الأخرى
البرهان بشروطه لدمج قوات الدعم السريع في الجيش، أراد أن يبيع سلطته في مجلس السيادة ليشتري أخرى. انقلابه على حكومة عبدالله حمدوك في 25 أكتوبر 2021 انتهى إلى فشل تام، بالرفض الشعبي له، وبعجزه عن إدارة الحكومة، وبفشله في إقناع العالم بأنه يستحق الدعم والثقة. وأصبح تخليه عن السلطة المدنية أمرا لا مفر منه. ولكنه أراد أن يضمن لنفسه سلطة عسكرية لا يضارعها أحد. وهو وضع يجعله قادرا، في النهاية، على أن يتحكم بخيارات السلطة السياسية المدنية. ذلك أن حاكما عسكريا أوحد، هو الذي يغلب في مواجهة تيارات مدنية متصارعة.
هذه اللعبة ليست جديدة في السودان. فالأحزاب المدنية إذ تختلف في ما بينها، بحكم طبيعة الأمور، فقد ظل الجيش في السودان يهتبل الفرص لكي يُغلب طرفا على آخر، قبل أن يطيح به لكي يستفرد بالسلطة، لحسابه الخاص.
الإطاحة بحكومة البشير، وفشل انقلاب 25 أكتوبر 2021، دلّا البرهان على طريق، يعتقد الآن أنه أكثر نفعا، يجمع بين الانسحاب إلى الثكنات وبين البقاء كسلطة عليا فوق رؤوس كل الأحزاب، سواء نجح في استمالة بعضها أو لم ينجح.
يريد البرهان أن يكرر، عن هذا السبيل، تجربة ميانمار في الديمقراطية التي تعمل تحت ظلال الجنرالات. وهو ما يعني أن وجود قوات مسلحة موازية يحبط هذا التطلع.
لقد زعم البرهان أنه يريد الانسحاب إلى الثكنات ووعد ألا يتدخل في الشؤون السياسية، مقابل أن يمتلك سلطة مطلقة على كل أصناف القوات المسلحة. هذا فخ، لم تنتبه الأطراف المدنية إلى مخاطره المستقبلية. وبالنظر إلى أن الجيش في السودان ليس مجرد قوة عسكرية، وإنما قوة اقتصادية تسيطر على العديد من مصادر الثروة، فإن وجود حاكم عسكري أوحد، سوف يشل قدرة أي حكومة مدنية على أن تتصرف بموارد البلاد وفقا لبرنامجها التنموي الخاص. سوف يقف الجيش لها بالمرصاد. وقد يعمد إلى الإطاحة بها، بانقلاب مباشر، أو من خلف ستار.
وجود قوة عسكرية موازية كان بوسعه أن يشكل ضمانة تحول دون هذا المصير. ولكن بعض الأطراف المدنية السودانية التي ظلت تنشغل بنزاعاتها الخاصة، اختارت الانسياق وراء الأوهام عندما أتاحت للبرهان أن يحلم بسلطة مطلقة، وقبلت وعوده بـ”إعادة هيكلة القوات المسلحة”. فكان “دمج” قوات الدعم السريع، لأجل التخلص منها، هو أول ما بدأ السعي إليه.
◙ عودة السلطة المدنية، وانسحاب الجيش إلى الثكنات، أمران يفترض أن يكونا خارج النقاش. وهما أمران يحسن التأكيد عليهما بوصفهما أساسا لن يمكن التخلي عنه
لا شيء يبرر تجاهل حقيقة أن قوات الدعم السريع هي التي أطاحت بسلطة البشير. الجيش جاء تاليا، لينقلب على التغيير. اُنظر في تفاصيل الأشهر الأولى للثورة، وسترى كيف حاول الجيش أن يستعيد زمام المبادرة بوسائل الخداع، حيث تبنى مطالب التغيير، ولكن بأن فرض الجيش نفسه كسلطة عليها. حتى أصبح العسكريون هم الحاكم الفعلي في البلاد من خلال “مجلس السيادة الانتقالي” الذي ترأسه البرهان.
مدنيّو التغيير ظل بوسعهم أن يروا كيف أن قيادات سلطة البشير، بمن فيهم البشير نفسه، خرجوا بأوامر من البرهان، من السجون إلى المستشفيات لأكثر من عام، بمزاعم المرض. كانت الرسالة واضحة. وهي تقول للأحزاب السياسية: اقبلوا بما نريد، أو نعيد النظام السابق.
لا حاجة إلى “نظرية مؤامرة” لكي تربط بين البرهان وبين فلول النظام السابق. الجيش كله هو من فلول النظام السابق. يتلون، ينحني للعاصفة، إلا أن مصالح قياداته مرتبطة بإحكام بمراكز الفلول الأخرى. ولهذا السبب، بقي البشير يحكم لثلاثين عاما. وهو ما كان ليسقط إلا عندما انقلب عليه محمد حمدان دقلو. ذلك أن قوات الدعم السريع ظلت بمثابة طرف “خارجي”، مقارنة بالمؤسسة العسكرية والأمنية التي بقيت على ولائها للبشير حتى بعد الإطاحة به.
كان يمكن للبرهان أن يمضي بمخططه، لولا أنه تسرع بانقلاب 25 أكتوبر ليكشف عن نواياه. السبب الذي دفعه إلى الانقلاب هو أن التيارات المدنية كانت تطلب تبنيا جذريا من جانب الجيش لمطالب التغيير، وأن يحاكم المسؤولون عن الجرائم التي ارتكبت بحق المتظاهرين. شعر البرهان بأن الدوائر تضيق عليه. وعندما سار انقلابه في طريق الهاوية، لم يجد مفرا من الاستدراك. ولكن من دون أن يتخلى عن طموحاته.
الأحزاب السودانية، وهي تعرف هذا الواقع، ليست مضطرة للانحياز إلى طرف. ولكنها مضطرة للدفاع عن حقها في بناء ديمقراطية لا يهددها جنرالات ولا تستظل بظلهم.