متى سيتمّ تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمُحاسبة في المغرب
دعا رشيد الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب المغربي إلى تعزيز الممارسة الديمقراطية وتقوية الوحدة الوطنية، وأكد في كلمة له بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الربيعية للبرلمان، بمجلسيه (مجلس النواب ومجلس المستشارين) أن افتتاح هذه الدورة يأتي في سياق دولي غير مستقرّ، اقتصاديا وجيوسياسيا، إذ تتفاقم الاستقطابات في العلاقات الدولية، وتعود ظاهرة الأحلاف بقوة في العلاقات الدولية يحكمها منطق المصالح المباشرة، حيث يتم التصرف في الغالب الأعم على أساس الأنانيات الوطنية ووفق براغماتية تضيقُ فيها.
نعم رشيد الطالبي العلمي، هو من يتحدث عن الممارسة الديمقراطية، والوحدة الوطنية!
كتب أحدهم، أنه كلما ذُكر اسم رشيد الطالبي العلمي عبر وسائل الإعلام، يكون الأمر مرتبطا بشيء من اثنين، إما أن الرجل سيتحمل حقيبة وزارة أو مسؤولية سياسية جديدة، أو أنه متورّط في قضايا تتعلق بتبذير المال العام!
كتبتُ اسم هذا الشخص على شبكة الانترنيت، فكانت النتيجة صادمة، فالرجل -حسب عدة مصادر عليمة- متورط في عدة فضائح مالية: منها فضيحة وقعت سنة 2016 كشفها رئيس اللجنة البرلمانية المكلفة بتقييم السياسات العمومية آنذاك، النائب البرلماني جمال المسعودي، وهي منح صفقة مثيرة تبلغ قيمتها 300 مليون سنتيم، لصديقه إدريس خزاني (والي سابق بمدينة تطوان) بعيدا عن أعين اللجنة البرلمانية المكلفة بإنجاز التقييم، ودون الخضوع لمسطرة إبرام الصفقات.
وهناك فضيحة أخرى كشفتها مصادر مطلعة ل”شوف تيفي” (أحد المواقع المغربية) تثبت أنه كان متورطا في شيكات بدون رصيد وصدرت في حقه أحكام قضائية بالسجن غير النافذ وغرامات مالية مهمة حسب الوثائق التي توصل بها الموقع المذكور.
وبالرجوع إلى تاريخ هذا ” “الكائن السياسي الخرافي” نجد أيضا أنه كان متابعا بتهمة التهرب الضريبي، في قضية حركها الخازن العام للمملكة نور الدين بنسودة، وهي القضية التي حُركت في وقت كان فيه الطالبي العلمي رئيسا لمجلس النواب، تعود تفاصيلها إلى سنة 1991 حين شرعت شركته “نورفي كوير” في التملص من أداء مستحقاتها الضريبية التي تراكمت على مدى عقدين ونصف من الزمن حتى بلغت قيمتها الإجمالية 12 مليون درهم، وقد حاول الوزير الأسبق المكلف بالشؤون الاقتصادية، التملص من أدائها عن طريق الدفع بالتقادم، لكن حكما قضائيا ألزمه بأداء 8 ملايين درهم، كما أن الخزينة العامة للملكة حجزت على راتبه البرلماني سنة 2016 للسبب نفسه.
ولعل آخر فضائح هذا “الكائن السياسي” والتي تسرّبت إلى حد الساعة، تلك التي كشفتها المفتشية العامة لوزارة المالية: تمريره (عندما كان وزيرا للشباب والرياضة) صفقة إنشاء موقع إلكتروني خاص بالمخيمات الصيفية سنة 2019 مقابل مليونين ونصف المليون
درهم، في حين أن المبلغ الحقيقي للعملية برمتها وفق تقديرات حقيقية لم يكن ليتجاوز 200 ألف درهم.
في سنة 2020 دعا الأمين لحزب الأصالة والمعاصرة، عبد اللطيف وهبي، إلى تشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق، تُناط لها مهمة التدقيق في كل ما له علاقة بوزارة الشباب والرياضة خلال فترة تسييرها من طرف القيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار رشيد الطالبي العلمي، حينذاك أكد وهبي أن حرمة المال العام “خط أحمر” لا يمكن التهاون في تتبع خيوط وتفاصيل كل الملفات التي تفوح منها روائح الفساد في التدبير والتسيير للشأن العام. لكن بعد إجراء انتخابات 2021 وانضمام حزب الأصالة والمعاصرة للتحالف الحكومي بلع وهبي لسانه، على الرغم من أنه تقلد منصب وزير العدل في الحكومة التي يقودها حزب التجمع الوطني للأحرار.
وتتوالى الغرائب والعجائب في المغرب، ففي يوم الاثنين الماضي، انتخب مجلس النواب، محمد مبديع الوزير السابق وعضو المكتب السياسي لحزب الحركة الشعبية رئيسا للجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، خلفا لزميله في الحزب محمد فاضلي الذي أسقطت المحكمة الدستورية عضويته بالمجلس بسبب جملة من الاختلالات الانتخابية، وجاء انتخاب مبديع رئيسا للجنة بعد تزكيته من طرف الأمين العام للحركة الشعبية، رغم متابعته في جرائم فساد تهم المال العام.
وعلى إثر ذلك، أشار محمد الغلوسي رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، في تدوينة له إلى أن ملف مبديع الذي تفوح منه روائح الفساد ونهب المال العام منذ سنة 2020 وإلى الآن، سيبقى دون أن يتزحزح من مكانه، وهو ما يفسر أيضا كون وزارة الداخلية لم تتقدم بطلب عزله إلى المحكمة الإدارية طبقا للمادة 64 من القانون التنظيمي للجماعات المحلية كما فعلت مع رؤساء جماعات آخرين.
في لقاء هو الرابع من نوعه منذ تنصيب الحكومة المغربية الحالية، عقدت هيئة الأغلبية الحكومية اجتماعاً مطولا ومغلقاً، بحضور وزراء ورؤساء الفرق البرلمانية لأحزاب الأغلبية، وخلص الاجتماع، الذي انطلق بعد موعد إفطار يومه الجمعة 14 أبريل الجاري، إلى “تجديد تأكيد تماسك مكونات الأغلبية الحكومية رغم ظرفية الأزمات والصدمات” الشيء الذي أكده عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، قائد التحالف الحكومي، بقوله أن الأغلبية بمكوناتها الثلاثة سواء من داخل القطاعات الوزارية أو عبر فُرقها البرلمانية ومكاتبها السياسية متماسكة، وتساند الحكومة دون شروط…
لو تأملنا فيما سبق، سنجد أن هناك خيطا ناظما بين تصريح رشيد الطالبي العلمي، حول الديمقراطية والوحدة الوطنية، والممارسات التي قام بها سواء هو بطلا لسلسلة من الفضائح المالية، أو محمد مبديع الذي تفوح منه روائح الفساد ونهب المال العام منذ سنة 2020، وانتُخب رئيسا للجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، أو عبد اللطيف وهبي، الأمين لحزب الأصالة والمعاصرة الذي طالب بتشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق، للتدقيق في كل المشاريع وطلبات عروض وصفقات، فبلع لسانه بمجرد تقلده منصب وزير العدل، أو الأغلبية الحكومية التي وقفت تتفرج على المغاربة وهم يكتوون بنار الأسعار الملتهبة دون أن تتدخل، وتضع حدّا لجشع المضاربين، وتغوُّل شركات المحروقات (إحداها مملوكة لرئيس الحكومة) التي تقوم بالتلاعب في الأسعار.
والحقيقة أن هذه الممارسات ما هي إلا تجسيد ل “الديمقراطية المغربية” كما يراها رئيس مجلس النواب رشيد الطالبي العلمي، وأما إعلان الأغلبية التماسكي، فما هو إلا تغطية على تلك الممارسات، ودفاعا عنها. والرسالة هنا واضحة لا تحتاج إلى عناء تفكير: إن الفضائح السياسية والمالية، والفساد بجميع أنواعه، لن يمنعا أيّ شخص من تولي المناصب السامية، والمسؤوليات الكبيرة، شرط أن يتمتع بعلاقات متشعِّبة مع ذوي السلطة والنفوذ.
فلاش: في الفصل الأول من الدستور المغربي، نقرأ أن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وأن الأمة في حياتها العامة تستند على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي.
من هنا تأتي أهمية الوحدة الوطنية باعتبارها القاعدة الأساسية لإقامة أي دولة حديثة، وعلى بناء نموذج للتقدم والديمقراطية. ويتفق معظم الباحثين حول الأولوية التي تحظى بها الوحدة الوطنية في بناء هذا النموذج، نظرا لما تمثله من علاقات تماسك وترابط بين مختلف عناصر الدولة والمجتمع، وذلك بتفعيل الشراكة بين المجتمع المدني والدولة بمؤسساتها المختلفة، وهي شراكة تكفل مشاركة واسعة في عملية بناء الدولة، وفي تحقيق النهضة والتنمية. ولا تتحقق مثل هذه الشراكة عادة دون ضمانات دستورية وقانونية، وليس عبثا أن يضع الدستور شرطا أساسيا لتحقيق ما سبق ألا وهو شرط ربط المسؤولية بالمحاسبة. لكن لا ندري من يعطّل تفعيل هذا الشرط منذ إقرار دستور 2011؟
إن غياب المحاسبة والمساءلة له بطبيعة الحال تداعيات وخيمة على سمعة الدولة وصورتها، تتجلى في الفساد، وضعف الشعور بالمواطنة، وفقدان الثقة في المؤسسات. وبديهي أن الافلات من العقاب يشجع على التمادي في استغلال النفوذ، ونهب المال العام وتأخير عجلة التنمية في البلاد.
وهذا ما أكد عليه الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لعيد العرش، حيث قال: “وهنا أشدد على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية، من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة. ” وأضاف: ” كما أؤكد أن الأمر يتعلق بمسؤولية جماعية تهم كل الفاعلين، حكومة وبرلمانا، وأحزابا، وكافة المؤسسات، كل في مجال اختصاصه”.
كلام الملك واضح والدستور والقانون واضحان، وعليه فقد آن الأوان للتفعيل الكامل لهذا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم السماح لأيّ كان عرقلة عمل المؤسسات الدستورية