مهن رمضانية في المغرب تستسلم للنسيان وأخرى تنتعش و«طبال السحور» الخاسر الأكبر
تنتعش في رمضان مهن عديدة على ضفاف هذا الرواج الروحاني الذي يلزمه بعض الاستثناءات المتمثلة في مهن عابرة عبور شهر الصيام، وأخرى تتجدد دماؤها فيه، وثالثة خسرت مند مدة معركتها في مواجهة الحداثة وباتت تعد أيامها الأخيرة وهي تحتضر على فراش الألفية الثالثة التي لن يتعرف أبناؤها على ملامحها بعد عقد من الزمن على أبعد تقدير.
المهن الرمضانية في معظمها مرتبطة بالبطن أو بدرجة أقل قدحا بالمائدة، وهي تتوزع بين الحلو والمالح وكل ذلك في ميزان المشتهيات يخلق الفرق ويضاعف كتلة الفرح الرمضاني في شقه المعيش، الذي يجاور الروح في نبضها اليومي.
لكن في المقابل، توجد مهن أخرى تسير في طريق الانقراض، وتتمنى لو أن الزمن لم تتحرك عجلته وبقيت عقارب الوقت متوقفة في سنوات الثمانينيات أو التسعينيات، حين كان حضورها يخلق الفرق فعلا في يوميات الناس.
من تلك المهن التي تنتصب خائفة وجلة من حتمية الرحيل النهائي، نجد «طبال السحور» أو «النفار» الذي يقابله «المسحراتي» في المشرق، وهي مهنة رمضانية خالصة لا تشوب تخصصها شائبة وترتبط بإيقاظ الناس من أجل تناول السحور قبل مواجهة يوم صيام طويل.
الخياط بدوره كان يعيش انتعاشا غير مسبوقة في أيام استثنائية مثل رمضان والأعياد، لكنه اليوم انتهى وقت الطوابير أمام باب محله، وعوضته تجارة الجاهز وتربعت في قلوب المستهلك الذي ما عاد قادرا على الصبر إلى حين وصول موعده ثم اخذ القياسات وبعد ذلك ترقب هلال ذلك الجلباب أو الفوقية.
إنه حديث النهايات غير السعيدة لمهن كانت نجمة الشهر الفضيل وأفلت بسبب تغيرات الحداثة وجوار التكنولوجيا الذي أضاع أجر رجال كانوا يطوفون على أزقة كل ليلة بخطوات خفيفة وسريعة وأيديهم على الآلة الموسيقية «الطبل مثلا»، وألسنتهم تصدح بطيب الكلام من قبيل «حان موعد السحور تقبل الله قيامكم وصيامكم».
وشهر الطواف ما كان لينتهي دون أجر من أريحية المواطنين، فلهم نصيب في «الفطرة» بتسكين الفاء وتعني زكاة الفطر، وغالبا ما يزيد الناس في أجرهم تكريما لهم أو ربما لأنهم عرفوا أن الزمن سيصير غير الزمن وسيصبحون أغرابا في عصر لا علاقة له بحلاوة ما سبق.
الغريب أن مهنة «طبال او نفار السحور» في المغرب، توقفت عن التوريث ولم يعد شاب اليوم يهتم بها مثل شاب الأمس الذي صار كهلا اليوم تجاوز عقده الخامس وربما شارف على السادس، ويعيش الوهن في خطواته ولم تعد أقدامه تسعفه على إكمال الطواف الرمضاني الليلي، وصار يتنهد وهو يشهد أنه آخر جيل من مهنة حتما ستنتهي بنهاية زملائه وجلهم في أعمار تتجاوز الخمسين.
مهنة أخرى لا ترتبط برمضان، لكنها كانت تنتعش فيه وخلاله وبه، وكانت الجلابيب النسائية والرجالية والفروقيات والدراعيات ومختلف البدلات خاصة لدى المغربيات مثل القفطان والتكشيطة وحتى «البيجامة» المنزلية (لباس منزلي) تصنع لدى الخياط.
ويمكن احتساب أيام رواج الخياط سابقا في حلول شهر رمضان، ثم اقتراب ليلة القدر، وبعد ذلك الموعد يكون عيد الفطر ثم يليه بأشهر عيد الأضحى، وما بين هذه المناسبات نجد المولد النبوي الشريف وغيرها من المناسبات الدينية الروحانية، إلى جانب النبض اليومي من أفراح وأعراس، كما كان يعتبر مقر الدلال للميسورين الذين ما كانوا ليلبسوا أي شيء فقط لو لم يصنعه الخياط الفلاني، هو مثل الماركات المسجلة الخياط يوازي مصمم الأزياء وصاحب الدار في أوروبا، فقط العرب اكتفوا بتسمية الخياط ومضوا يحجزون موعدهم.
اليوم الخياط يعد بدوره أيامه الأخيرة كقلب نابض للمناسبات الفرحة وغيرها، فقد زاحمه السوق بالجاهز من الملابس، حتى التقليدي صار بضاعة تتراكم في المحلات كما على الأرصفة لدى الباعة الجائلين.
وتبقى الأسباب التي أدت إلى تراجع الخياط عن رواجه السابق، تتمثل في السعر والسرعة والقدرة على التغيير كلما اشتهت النفس شيئا جديدا، وهو المستعصي بالنسبة للخياط، فالكسوة جلابة كانت أو غيرها، تأخذ الوقت لتجهز وتبقى فريدة من نوعها لا تلبسها إلا صاحبتها وفي حالة العيب تعاد الكرة من جديد وهكذا يظل الوقت الطويل أهم عائق، فتح للملابس الجاهزة الطريق على مصراعيه لتهزم أعتى المهن وأقدمها.
قد يكون الخياط أقل ضررا من «طبال السحور»، وقد يكون أمل الأول في الحياة أكثر من الثاني، خاصة في ظل وجود «العشّاقة» الذين لا يلبسون إلا ما تبدع أنامله، لكن بالنسبة للمسحراتي المغربي فالأمر في طريقه إلى النهاية الحتمية.
لسوء حظ بعض المهن الأخرى، انها صارت «مطية» للمتسولين، ونذكر هنا «الكراب» أي الساقي بلباسه الشهير والاستثنائي المحفوظ في ذاكرة الثقافة المغربية والموروث اللامادي، صار بعض المدّعين يرتدون مثل بذلته ويطوفون في شهر الصيام من أجل دراهم معدودة رغم أن الناس صيام، إلا انهم يعزفون على نغمة التعاطف التي كانت إلى وقت قريب تنفع، أما اليوم فقد صار الكل يعرف «الكراب» الحقيقي من المزور، ورغم ذلك يتصدق ببضع دراهم ويقول «نويتها لله».
«الكراب» الساقي المغربي، ليس مهنة رمضانية بل ارتبطت بفصل الصيف حين تصبح شربة ماء من «قربة» جلد ماعز، أشهى وأطيب من عصير ليمون، هذا الكائن الذي يختفي طيلة السنة صار من عجيب وغريب تصاريف المتسولين أن يظهر في عز نهار رمضان ويقف منتحل صفته في أكثر المواقع ازدحاما، وتلك علامات «المهنية» و»الحرفية» في صناعة تسمى «صناعة التسول».
إلى جانب المهن التي تسير في طريق الانقراض وأبرزها «طبال السحور»، نجد مهنا أخرى تنتعش وتعيش أزهى وأبهى أيامها في شهر الصيام، ومنها تلك المرتبطة بالمائدة، حيث تتفنن المحلات الطارئة أو «الكراريس» المستحدثة خصيصا لهذه المرحلة، في تزيين الشوارع بما لذ وطاب بروائحه الزكية واللذيذة واشكاله المختلفة وتنويعات لا حصر لها من المخبوزات الحلوة والمالحة.
وتكفي جولة خفيفة في «سويقة» العاصمة الرباط، وبالضبط «باب البويبة» الذي تصطف على جنباته محلات كلها عبير رمضاني شهي، يجعل البطن تدعو باقتراب آذان المغرب، محلات كثير ة تكون تجارتها في الأيام العادية غير تجارة المخبوزات والحلويات، لكنها تتوقف كليا عن ممارسة تخصصها من اجل رواج رمضاني لا يضاهيه أي شهر آخر.
«سويقة» العاصمة الرباط، توازيها «سويقات» أخرى في كل مدن المغرب، وبالنكهة والأشكال نفسها، أما الرواج فحدث ولا حرج والعابر لا يمكنه أن يمر من درب «البويبة» أو «السوق المركزي» دون أن يشتري ما تيسر من حلويات أو «بصطيلة» أو «بريوات» مالحة ترضي العين قبل البطن.
ضمن هذا العشق المغربي لشهر رمضان، يبقى الخاسر الأكبر في معركة الحداثة والزمن المتغير، هو «طبال السحور» الذي سنفتقده حتما بعد عقد من الزمن على أبعد تقدير، فهو سنة بعد أخرى تقل خطواته في مدن المغرب، والاحياء التي يسير فيها تقل أيضا، والعمر يمر بسرعة والخلف ليس متاحا فالجميع استبدل الرجل بهاتف ذكي.