هل تحرك قطة مياه الجزائر والمغرب؟
كيف ستفلح قطة في ما فشل فيه السياسيون؟ قد يتساءل البعض بتهكم واستهزاء. وقد يجزم آخرون بيأس وقنوط أن تلك المياه ستبقى راكدة لأبد الآبدين، وأن الحياة لن تعود إليها مطلقا في يوم من الأيام، لكن إن كان الجميع يقر الآن بأن تلك القطة كانت آية من آيات الله، فهل إنها كانت كذلك لأن الطريقة التي صعدت بها على كتف الإمام وهو يرتل القرآن كانت طريفة ومعبرة؟ أم لأنها كانت أيضا وفي جانب آخر حجة قوية على اليائسين والخانعين والمستسلمين للأمر الواقع، والقابلين باستمرار القطيعة بين الجارتين المغاربيتين؟
إننا نعني هنا بالطبع تلك الهرة التي قفزت على كتف الإمام الجزائري في صلاة التراويح، ولعل قائلا قد يقول وما علاقتها أصلا بالخلافات السياسية الجزائرية المغربية؟ وهل من المعقول أن يزج بهرة صغيرة لا حول لها ولا قوة في مستنقعات السياسة العطنة والموبوءة؟ لكن من كان بطل القصة إذن؟ إنه الإمام لكن ألم تكن بدورها بطلة؟ إن قفزتها تلك هي التي جعلت العالم يتعرف إلى ذلك الشيخ، وهي التي سمحت للناس بأن يدركوا كيف عاملها برفق وحنو، لأنه كان مؤمنا بأن دينه أوصاه بذلك. لقد تابعه الملايين في الشرق والغرب، ولم يكن الجزائريون وحدهم من تأثروا بما فعله الإمام الجزائري وليد المهساس قبل أسبوع من الآن. فحصول مقطع الفيديو الذي ظهر فيه وهو يحنو على تلك القطة التي قفزت على كتفه، حين كان يؤم المصلين في صلاة التراويح، لنسبة مشاهدة عالية جدا بلغت أكثر من مليار شخص، كان دليلا على أن تلك الحركة قد هزت بالفعل قلوب شعوب عديدة حول العالم. كما أنه كان أيضا فرصة لنقل صورة عن سماحة الإسلام وقيمه النبيلة، إلى الذين ما زالوا يجهلونه، أو من يملكون عنه فكرة مضللة وخاطئة، أو حتى من يعملون جاهدين على طمس معانيه السامية وتشويهها. فبحركة عفوية بسيطة طار ذلك المقطع مثلما غرّد الناشط المصري عبد الله الشريف على تويتر «من أرض الجزائر ما بين صفحات الشيشان شرقا، إلى مواقع الأمريكيين غربا، وأفسد الشيخ الطيب نصوصا كتبت ونجوما تكلفت وبروفات أرهقت وملايين أنفقت، بتصوير مجاني ودعاية مجانية وقطة»، لكن ألم يكن واردا أيضا، ومن باب الالتزام الصادق والأمين بتلك القيم والمعاني العظيمة للإسلام أن يدعو الأئمة عموما، وذلك الإمام الجزائري الذي جعلته تلك اللقطة نجما شهيرا على وجه الخصوص، إلى إصلاح ذات البين بين الجارتين المغاربيتين، أي الجزائر والمغرب، خصوصا في هذا الشهر الفضيل، والمسلمون يعيشون العشر الأواخر من رمضان؟ ألا يستحق الرفق بالإنسان الجزائري والمغربي بدوره قدرا عاليا من العناية يضاهي على الأقل ذلك الاهتمام الفائق الذي حازه مشهد الرفق بالقطة؟
ما وقع للإمام مع القطة يمكن أن يكون المنطلق لتحريك المياه الراكدة بين الشقيقين التوأمين، كما وصفهما العاهل المغربي
إن الخلل الكبير الذي كشفته تلك الهرة من حيث لا تدري هو ذلك التناقض الصارخ بين المشاعر الإنسانية الطبيعية والمجردة، التي يبديها البعض تجاه الحيوانات، أو حتى أمام المآسي والكوارث الطبيعية، والمشاعر المتقلبة والمتلونة بأكثر من لون والخاضعة للحسابات التي يظهرها نحو أقرب جيرانه. فكيف ترق القلوب وتحنو في الحالة الأولى وتقسو وتتصلب في الثانية؟ وهل أن الدين يدعو إلى معاملة الحيوان بلين ورفق، ويحث على معاملة الجار والشقيق بفضاضة وقسوة؟ لا حاشا وكلا بالطبع. ولعل محتجا يقول هنا إننا نحمّل الموضوع أكثر مما يحتمل، وإن ما حصل كان عفويا وطبيعيا ولا مجال أبدا لأن يؤول بشكل مختلف، أو أن يعطى بعدا واسعا، لكن أليس الرفق مطلوبا مع الحيوان والإنسان، على حد سواء؟ ثم إن لم يقم الدعاة والأئمة ورجال الفكر والفن والنخب الجامعية وكل الفاعلين والمؤثرين في مجتمعاتهم بالدعوة إلى إصلاح ذات البين، وبالعمل على تقريب الشعوب بعضها إلى بعض فما الحاجة إليهم إذن؟ وما فائدة نجوميتهم وشهرتهم؟ وهل ننتظر في تلك الحالة من الحكومات أن تتحرك بدلا منهم؟ إن هذا هو بيت القصيد، فحين ينكفأ هؤلاء على أنفسهم ولا يحاولون إعادة المياه إلى مجاريها بين الشعبين الشقيقين، ولو بالوسيلة الوحيدة التي يملكونها، أي الكلمة الصادقة والحرة، فإنهم سرعان ما يسقطون في تناقض صارخ بين ما يعلنونه من التزام بالمبادئ العظيمة للدين، أو الفكر أو الفن، وما يمارسونه ويفعلونه على الأرض، كلما تعلق الأمر بإبداء آرائهم أو الجهر بمواقفهم حول القضايا والمسائل العملية التي تشغل حياة ومستقبل شعوبهم. فبقدر ما كان رائعا جدا وجميلا للغاية أن يرى العالم مشهد الرفق بالقطة فقد كان الأحلى والأجمل منه أن يشاهد أيضا مشهد رفق الجزائريين والمغاربة ببعضهم بعضا وخفضهم على قدر ما يستطيعون ولو من حدة الحرب الكلامية الهوجاء المفتوحة بينهم منذ عقود. ولنتخيل فقط ما الذي كانت ستتركه كلمات ذلك الإمام من أثر طيب ورائع في النفوس، لو أنه قال مثلا في أول ظهور إعلامي له بعد تلك اللقطة: «إخواني أردت أن أخبركم أن البعض ربما قال عن حسن نية إنني مغربي، في حين إنني جزائري كما تعلمون ولكن معليش فلا فرق بين الجزائري والمغربي، لأننا كما تعلمون إخوة وجيران وما يجمعنا أكثر مما يمكن أن يفرقنا، وإني أغتنم هذه الفرصة للسلام على إخوتنا في المغرب وتحيتهم في هذا الشهر الفضيل». لقد شعر الجميع بمرارة كبرى حين استمعوا للرئيس الجزائري وهو يقول في مقابلته الأخيرة مع قناة «الجزيرة» إن العلاقات الجزائرية المغربية وصلت إلى نقطة اللاعودة. لكن إن كان اليأس قد دب في نفوس السياسيين وإن كان القنوط قد استحوذ عليهم، فهل ينبغي على قادة الفكر وصناع الرأي والأئمة والخطباء هم من بين هؤلاء أن يرموا المنديل باكرا ويسلموا بعجزهم وعدم قدرتهم على بذل أي جهد في سبيل تحقيق تلك الغاية؟ إن أخطر ما قد يفعله البعض منهم وللأسف الشديد وعوض الدعوة للمصالحة والتقارب هو الترويج للقطيعة والتباغض، والعمل ليل نهار على ترسيخها بشتى السبل، من خلال النفخ المستمر في نار الخلافات حتى تبقى جذوتها حية ومتقدة. وحين يفعلون ذلك فإنهم لا يدركون على الأرجح أنهم ينحرفون بمقاصد الدين ويحيدون تماما عن تشديده على عدم قطع الأرحام ويرتكبون بالمثل جريمة فظيعة وخطيرة في حق الأجيال المقبلة، من خلال زرع بذور الحقد والكراهية فيها. ولا شك في أن أسهل ما يمكنهم فعله هو أن ينساقوا وراء تيار السب والشتم والدعوة لشوفينية مقيتة، لكن أصعب ما يمكنهم الإقدام عليه هو أن يجدفوا ضد ذلك التيار ويكونوا مصابيح تبدد عتمة الظلمات وتكشف سوءات التعصب، التي بدأ يستشري بحدة. إن ما وقع للإمام مع القطة يمكن أن يكون المنطلق لتحريك المياه الراكدة بين الشقيقين التوأمين، كما وصفهما العاهل المغربي، وحينها قد يكتب التاريخ أن هرة نجحت في ما أخفق فيه السياسيون.