مع تولي حزب التجمع الوطني للأحرار مسؤولية إدارة الشأن الحكومي برفقة حزبي الاستقلال والأصالة والمعاصرة، قدم وعودا من ضمنها زيادة الشفافية في التعاملات الحكومية والتصدي للفساد والرفع من مستوى معيشة السكان وفرص التشغيل والعناية بقضايا الصحة والتعليم. لكن، مع أزمة الغلاء المتواصل خرج من بين أحزاب الائتلاف الحكومي نواب وقيادات نقابية ينتقدون السياسات العمومية والاقتصادية التي تنتهجها الحكومة، وارتفع منسوب النقد مع ارتفاع منسوب الغلاء الذي طال معظم الأسر وراح يضغط على التماسك الحكومي في عمقه.
وهو ما دفع بحزب الأصالة والمعاصرة لتوجيه دعوة عاجلة إلى الأغلبية الحكومية للاجتماع للتعامل مع الوضع الاقتصادي وانعكاساته على المجتمع المغربي، في دلالة على أن الأحزاب المشكلة للحكومة تعي حجم الأزمة التي عليها حلها، والتي لا ينفع معها الإنكار أو التبرير. ولا بد من مراجعة التعهدات الانتخابية التي تم تقديمها قبل عامين، والخفض من التزامات البرنامج الحكومي، واتخاذ إجراءات أكثر جرأة وابتكارا لمواجهة أزمة الغلاء الحالية التي تواجهها البلاد.
الإجراء الذي اتخذته الحكومة مؤخرا في محاولة منها للتصدي لارتفاع أسعار المواد الغذائية هو وقف تصدير المنتجات الزراعية، خاصة البطاطس والطماطم، لتأمين ما تحتاجه السوق الداخلية منها. إلا أن هذا لم يحل المشكلة، وتطمينات الحكومة هي الأخرى لم تحل دون رفع المواطنين المغاربة لأصواتهم تعبيرا عن إحباطهم من ارتفاع الأسعار، واهتزاز ثقتهم في الحكومة التي أكدت أن الأسعار ستنخفض مع بداية شهر رمضان. وبعد أسبوعين من دخول رمضان لم تتحقق الوعود، وواصلت أسعار اللحوم الحمراء في الارتفاع لتصل إلى 100 درهم (9.5 دولار) للكيلوغرام في بعض المناطق.
المؤسسات غير الحزبية كالبنك المركزي وغيره ترى أن على الحكومة أن تعالج الاختلالات المرتبطة بعجز الميزانية وجدوى الاستثمار في القطاع العام والتضخم وعلاقته بالسياسات النقدية
قبل ذلك كانت الحكومة قد أعلنت عن حزمة من الإجراءات لدعم دخل الأسرة المغربية والشركات، ومع ذلك، لم تنته الأزمة التي ربطتها الحكومة بتداعيات كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية وتداعيات الجفاف، وختمتها بالمضاربين، ليتزايد الغلاء ويطال الأسر التي كانت تصنف ضمن الطبقة الوسطى وهو ما يمكن أن يهدد السلم الاجتماعي.
قبل أيام وجه حزب التقدم والاشتراكية رسالة إلى رئاسة الحكومة تحذر من تفاقم الوضع، وتلح على الحكومة للتعامل مع الأوضاع بواقعية وتتخلى عن لغة التبريرات التي لم تعد تقنع المواطن البسيط الذي يحس بوطأة الغلاء على معيشته اليومية. ووصفت الرسالة المفتوحة مقاربة الحكومة للأزمة بأنها “غير مبالية وغير مسؤولة”، مشيرة إلى أن ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية أدى إلى غضب سكان المغرب.
الرسالة أثارت احتجاج التجمع الوطني للأحرار الذي اعتبرها خارجة عن السياق، متهما الحزب المعارض بتوظيف الأزمة سياسيا للنيل من الحكومة، في وقت كان عليه استدعاء رئيس الحكومة عزيز أخنوش إلى البرلمان لتقديم إجابات على الأسئلة المتعلقة بالسياسات الحكومية الاجتماعية والاقتصادية لمواجهة الأزمة.
لا شك أن الأزمة الحالية التي نعيشها تأثرت بتفاقم التضخم بسبب الاضطرابات الجيوسياسية مثل حرب أوكرانيا والجفاف الحاد الذي تسبب في انخفاض المنتج الزراعي، ولكن لماذا لم تستطع الحكومة إلزام المنتجين بخفض أسعار المواد الزراعية الرئيسية، وتوجيه تلك المواد نحو السوق الداخلية لحماية الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي والتضامن في مثل هذا الوقت العصيب؟ هناك من يقول إن القانون يحمي المنتجين، وتفسيرات أخرى تذهب بعيدا لتقول إن كبار المنتجين هم من ساعدوا بعض الأحزاب المشكلة للحكومة على الفوز في الانتخابات.
ونحن بدورنا نتساءل ماذا يحدث عندما ينسى صانعو السياسات دروس أزمة الغلاء؟
هناك ثلاثة مؤشرات تسمح بتحديد معالم الأزمة وطريقة التعامل معها، والتي لا يريد العقلاء أن تستمر لأن تداعياتها خطيرة:
أولا، أزمة تواصل بين الحكومة والشعب، فالناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى بايتاس تأرجح في تصريحاته المتضاربة بين الإنكار وتقديم وعود بحل مسألة ارتفاع الأسعار قبل رمضان، ليقول مؤخرا إن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لم تنجح في كبح موجة الغلاء. والخطير أن بايتاس صرح علنا أن الحكومة لا تعرف من هم الوسطاء والمضاربون الذين تتهمهم بأنهم السبب وراء الأزمة رغم أنها تمتلك كل الوسائل الضرورية لمعرفتهم.
ثانيا، من الواضح أن أحزاب المعارضة تريد استثمار ما يحدث سياسيا وتسجيل مآخذ ضد أحزاب الحكومة. لكن خروج رئيس البنك المركزي المغربي (بنك المغرب) الذي لا علاقة له بالتجاذبات السياسية، ليقول للحكومة إنه يعارضها في ما يتعلق بسعر الفائدة التي رفعها إلى 3 في المئة، مؤكدا أن التضخم يفوق تقديرات الحكومة بثلاث نقط ونصف، خطوة يرى فيها المراقبون تحذيرا واضحا للحكومة والأحزاب المشكلة لها.
تشديد الرقابة على الأسواق المغربية لمنع التلاعب في الأسعار.. يحتاج إلى تصحيح السياسات المالية.. بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك بإقالة وزراء أثبتوا فشلهم في ابتكار آليات جديدة للتعامل مع الأزمة
ثالثا، تصريحات المندوب السامي للتخطيط التي أكد فيها أن ارتفاع الأسعار سيستمر لمدة طويلة، وأن التضخم أضحى مشكلة بنيوية، وأن مصدره ليس خارجيا فقط، بل هناك سبب داخلي هو قلة العرض، وأن رأس المشكلة يكمن في المخطط ألأخضر الذي قاده أخنوش عندما كان وزيرا للفلاحة في عدد من الحكومات المتعاقبة، وذلك بسبب التركيز على التصدير عوضا عن تلبية احتياجات السوق المحلية.
الحكومة من جانبها ودفاعا عن خياراتها قالت إنها رصدت ميزانيات ضخمة لدعم القدرة الشرائية للمواطن، وتسوية ملفات اجتماعية ظلت عالقة لسنوات، كما تم الترفيع في نسبة الضرائب على الشركات الكبرى والمؤسسات الائتمانية وشركات التأمين التي تحقق أرباحاً كبيرة. ومقابل ذلك خففت العبء الضريبي عن العمال والمتقاعدين والشركات الصغرى والمتوسطة، وهي تعمل على توحيد معدل الضريبة على الشركات تدريجيا.
هذا كله يدفعنا للقول إن تشديد الرقابة على الأسواق المغربية لمنع التلاعب في الأسعار وفرض عقوبات صارمة على المخالفين، ودعم المواطنين والمهنيين في القطاعات المتضررة التي طالبت بها المعارضة، يحتاج إلى تصحيح السياسات المالية عن طريق قانون مالي تعديلي. بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك بإقالة وزراء أثبتوا فشلهم في ابتكار حلول وآليات جديدة للتعامل مع هذه الأزمة.
وبينما يحكم المواطن البسيط على أداء الحكومة من خلال ما يراه ويحس به ويؤثر على معيشته بشكل مباشر، قد تبالغ أحزاب المعارضة في انتقاداتها للحكومة. ومع ذلك عندما دعا حزب التقدم والاشتراكية الحكومة إلى اتخاذ إجراء “عاجل وفعال” وعدم “الاعتماد على الإصلاحات النقدية التي تبث محدوديتها فقط”، فهو بذلك يمارس دوره الطبيعي في المنافسة السياسية.
على النقيض من ذلك، ترى المؤسسات غير الحزبية كالبنك المركزي وغيره أن على الحكومة أن تعالج الاختلالات المرتبطة بعجز الميزانية وجدوى الاستثمار في القطاع العام والتضخم وعلاقته بالسياسات النقدية، والإنفاق الاجتماعي، وصولا إلى توازنات اقتصادية وخفض نسبة الدين الخارجي مقارنة بالناتج الداخلي للبلاد.