سؤال حير المغاربة من له المصلحة في استمرار أخنوش على رأس الحكومة ومخططاته العجاف؟
ليساوي
خلصت في مقال ” خارطة طريق للخروج من دورة الأزمات الأنية و المستقبلية في المغرب ..” إلى أن الخروج من عنق الزجاجة و بناء مغرب المستقبل و إخراج البلاد من أزماتها الداخلية و الخارجية، لا يمر قطعا من بوابة الحكومة الحالية و الانتخابات بمفهومها القائم و الغالب ، و إنما المدخل بنظرنا هو القطيعة مع النموذج المعتمد منذ الاستقلال في تدبير قضايا الوطن مركزيا و جهويا ، و إبعاد الإدارة البيروقراطية و الأسلوب الأمني عن إدارة الشأن التنموي. فمحاربة الفقر و البطالة و الهشاشة الاجتماعية لا تتحقق باستعمال “الهراوة” و القبضة الأمنية، و تكميم الأفواه ، كما لا تتحقق بالشعارات ، و إنما تتحقق بتنفيذ إصلاحات جذرية وجادة .. و إقالة أخنوش و إسقاط حكومته الفاشلة و العاجزة و الفاقدة للأهلية و الشرعية الشعبية، ضرورة حتمية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، على الرغم من أننا ندرك أن الرجل لا يملك من الأمر شيء و ما يحدث يتجاوز شخصه و موقعه، لكن الإقالة يمكن أن تعيد الأمور لنصابها و تجنب البلاد ماهو أخطر و أسوأ..
و لعل ما يحدث في المغرب يذكرني بما كتبه العلامة المقريزي في تحليله و تأريخه لحقبة ما عرف بالشدة المستنصرية و التي حدثت في عام 457 هجرياً، والتي كانت أشد فتكاً بالمصريين من اي كوارث أخرى..
و يعد المقریزي أحد رواد الفكر الاقتصادي الإسلامي في العصور الوسطى، فقد اهتم بدراسة المشكلات الاقتصادیة والمجاعة التي حلت بمصر في عصر الممالیك، وأشتهر بالنظریة الكمیة في قیمة النقود، و قد سبق أن صاغ “قانون كريشام” بقرون، عندما أكد أن النقود الرديئة تخرج النقود الجيدة من التداول، ومن كتب المقريزي كتاب «إغاثة الأمة بكشف الغمة» الذي يحكي فيه تاريخ الغلاء أو التضخم في مصر ويحلل أسبابه وآثاره، و”الغمة” هي ما نسميه اليوم ب “التضخم الجامح” الذي اجتاح مصر في حياته، وأراد من خلال تحليله التمييز بين الأسباب الهيكلية والنقدية وتلك المتعلقة بالسياسات العامة..
أما الهيكلية فأهمها نقص الإنتاج الزراعي والحيواني، وأهم أسبابه شح مياه النيل ثم الاحتكارات التي تنتهز فرصة نقص الناتج الزراعي، ثم الرشوة للحكام، خاصة حينما يتولى منصب “المحتسب” المسؤول عن الأسواق. فالمقريزي رحمه الله ملك القدرة على النقد الایجابي والتحلیل العلمي والإبداع…و سنحاول من خلال نموذج المقريزي تلميذ إبن خلدون أن نعطي نموذجا للإقتصاد السياسي لدى علماء المسلمين ، و من دون شك هؤلاء لم يعتمدوا نظريات سميث و ريكاردو و إنجلز و كينز و ماركس ، و إنما كانت مرجعيتهم الأولى الكتاب و السنة و إعمال الفكر النقدي بعيدا عن التحيز و الأحكام المسبقة: فماهي المشاكل الاقتصادیة التي أدت إلى تفاقم المجاعة في مصر في زمن الممالیك حسب المقریزي؟ ما هي أهم الوقائع الاقتصادیة التي تطرق إلیها المقریزي في كتابه “إغاثة الأمة بكشف الغمة”؟
تناول المؤرخ المصري تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (1364-1442م) من خلال كتابه “إغاثة الأمة بكشف الغمة” تاريخ المجاعات التي نزلت بمصر منذ أقدم العصور إلى سنة 808 هـ، التصدي لأسباب الغمة، واقتراح العلاج الاقتصادي الصحيح لدرئها.
فقد حلل في فصل بعنوان “في بيان الأسباب التي نشأت عنها هذه المحن”، النواحي الاقتصادية والاجتماعية التي كانت وراء ما حل بمصر من بلاء في زمانه؛ وقد قدم دراسة تحليلية اقتصادية واجتماعية سابقة لعصرها تتجاوز سرد الأحداث إلى التركيز على أهم الأسباب وعلاج هذا الواقع الشنيع الذي يعود بدرجة أولى إلى “سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد، لا أنه كما مر من الغلوات وانقض من السنوات المهلكات”، موضحاً أن “أصل الفساد” بنظره، يتجلى في ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، حيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل، دون الاكتراث بكيفية الحصول على هذا المال والعواقب الوخيمة المترتبة على ذلك، كما يشير المقريزي إلى غلاء الأطيان، ورواج الفلوس وما ترتب على ذلك من آثار سلبية….
وسبب ذلك كله ثلاثة أسباب:
السبب الأول، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، وهذا السبب أصل الفساد، فالمناصب العامة كالوزارة والقضاء ونيابة الإقليم وولاية الحسبة وسائر الاعمال يتم الحصول عليها بالرشوة، حيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل. فتخطى لأجل ذلك كل جاهل مفسد وظالم وباغٍ إلى ما لم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواشي السلطان، ووعده بمال للسلطان على ما يريده من الأعمال، فلم يكن بأسرع من تقلده ذلك العمل وتسليمه إياه، (و) ليس معه مما وعد به شيء قل ولا جل، ولا يجد سبيلاً إلى أداء ما وعد به إلا باستدانته بنحو النصف مما وعد به، مع ما يحتاج إليه من شارة وزي وخيول وخدم وغيره؛ فتتضاعف من أجل ذلك عليه الديون، ويلازمها أربابها. لا جرم أنه يغمض عينيه ولا يبالي بما أخذ من أنواع المال، ولا عليه بما يتلفه في مقابلة ذلك من الأنفس، ولا بما يريقه من الدماء، ولا بما يسترقه من الحرائر، ويحتاج إلى أن يقرر على حواشيه وأعوانه، ويتعجل منهم أموالاً، فيمدون هم أيضاً أيديهم إلى أموال الرعايا…
فلما دُهِيَ أهل الريف بكثرة المغارم وتنوع المظالم اختلفت أحوالهم، وتمزقوا كل ممزق، وجلوا عن أوطانهم، فقلت مجابي البلاد ومتحصلها، لقلة ما يزرع بها، ولخلو أهلها ورحيلهم عنها لشدة الوطأة عليهم، وعلى من بقي منهم. وكان هذا الأمر كما قلنا مدة أيام الظاهر (برقوق) إلى أن حدث غلاء سنة ست وتسعين، كما مر ذكره، فظهر بعض الخلل لا كله في أحوال عامة الناس لأمرين: أحدهما البقية التي كانت بأيدي الناس فاحتملوا الغلاء لأجلها، والثاني كثرة صلات الظاهر وتوالي بره مدة الغلاء في سنة سبع وثمان وتسعين، حيث لم يمت فيه أحد بالجوع فيما نعلم….وانسحب الأمر في ولاية الأعمال بالرشوة إلى أن مات الظاهر برقوق، فحدث لموته اختلاف بين أهل الدول إلى تنازع وحروب (..) فاقتضى الحال من أجل ذلك ثورة أهل الريف وانتشار الزعار وقطاع الطريق، فخيفت السبل، وتعذر الوصول إلى البلاد إلا بركوب الخطر العظيم. وتزايدت غباوة أهل الدولة، وأعرضوا عن مصالح العباد، وانهمكوا في اللذات لتحق عليهم كلمة العذاب. وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا.
السبب الثاني غلاء الأطيان: وذلك أن قوماً ترقوا في خدم الأمراء يتولفون إليهم بما جبوا من الأموال إلى أن استولوا على أحوالهم، فأحبوا مزيد القربة منهم، ولا وسيلة أقرب إليهم من المال، فتعدوا على الأراضي الجارية من إقطاعات الأمراء، وأحضروا مستأجريها من الفلاحين، وزادوا في مقادير الأجر. فثقلت لذلك متحصلات مواليهم من الأمراء، فاتخذوا ذلك يدا يمنون بها إليهم، ونعمة يعدونها إذا شاؤوا عليهم. فجعلوا الزيادة ديدنهم كل عام، حتى بلغ الفدان لهذا العهد نحوا من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث. لا جرم أنه لما تضاعفت أجرة الفدان من الطين إلى ما ذكرناه، وبلغت قيمة الأدب من القمح المحتاج إلى بذره ما تقدم ذكره، وتزايدت كلفة الحرث والبذور والحصاد وغيره، وعظمت نكاية الولاة والعمال، واشتدت وطأتهم على أهل الفلح، وكثرت المغارم في عمل الجسور وغيرها – وكانت الغلة التي تتحصل من ذلك عظيمة القدر زائدة الثمن على أرباب الزراعة، سيما في الأرض منذ كثرت هذه المظالم- منعت الأرض زكاتها، ولم تؤت ما عهد من أكلها؛ والخسارة يأ باها كل واحد طبعا. ولا يأتيها طوعا…
السبب الثالث: رواج الفلوس : أو ما نصطلح عليه اليوم بسوء الإدارة النقدية التي سمحت بزيادة المتداول النقدي بعدما عممت الدولة التعامل بالفلوس، والفلوس بالمعنى الفقهي هي: كل النقود المعدنية الاصطلاحية المتخذة من غير الذهب والفضة، ومثل هذه النقود لم يكن بالإمكان الحد من عرضها، لأن المعادن التي تُسك منها وافرة قياساً بالذهب والفضة، وتجد السلطة النقدية في إصدارها وإتاحتها للجمهور مصدر تمويل رخيص.
ومن المعلوم أن النقود الذهبية والفضية لها قيمة استعمالية أو ذاتية بجانب قيمتها التبادلية أو قوتها الشرائية، وبالتالي لا يؤثر أي تغير فيها على مالكها أو على الأداء الاقتصادي في الدولة، بينما النقود الاصطلاحية – الفلوس-ليست لها قيمة ذاتية، ويأتي أثر ذلك عــلى أداء النقود لوظائفها بكفاية ذلــك أنه في حالة النقود الذهبية تعتبر نقداً وسلعة ، فإذا حدث تغيير في القوة الشرائية لها حدث تغيير مقابل وبنفس النســبة في قيمتها كسلعة، وبالتالي يعود التوزان والاستقرار لهــا كقوة شرائية مما لا يحدث معه تقلبات عنيفــة في قيمتها تؤثر على أدائها لوظائفها النقدية… أما بالنسبة للنقود من غير الذهب أو غير المرتبطة به، فإن ماليتها، متمثلة في قوتها الشرائية، مستمدة من الاصطلاح والقبول العام لها وليس من قيمتها الذاتية، وبالتالي فإنها عرضة لحــدوث تقلبات عديدة في هذه القوة الشرائية..
والأزمات المالية الدورية و التضخم الجامح في النظام الرأسمالي، سببها العلاقة بين المادة المتخذة منها النقود وقوتها الشرائية وصلاحيتها لأداء وظائفها بكفاية ،و هو ما أشار إليه المقريزي و الإمام السرخسي و العديد من فقهاء المســلمين منذ زمن بعيد.
ونتيجة للانخفاض الحاد في القوة الشرائية الحقيقية للفلوس، فقد الناس ثقتهم فيها كعملة ورفضوا التعامل بها، يقول المقريزي: ” اتخذوا أنواعاً من السلع كعملات يتعاملون بها، وبعض الناس استخدموا أنواعاً من الصدف أو القواقع كنقود.. وهذا نفس ما حدث في بداية عشرينيات القرن الماضي حينما أسرفت الحكومة الألمانية في إصدار “المارك” فحدث التضخم الجامح، مما أدى الى فقدان قوته الشرائية، ثم فقدان ثقة الناس فيه تماماً ورفضوا التعامل به….و هذا الإنتاج المبدع في الاقتصاد السياسي و فروعه المختلفة كما تطرق لها المقريزي و غيره من الفقهاء المسلمين إرتكز على الأصول العامة المستمدة من نصوص القران الكريم، والسنة النبوية الشريفة و ما ورد بهما من مبادئ عامة ناظمة لقضايا المال والأعمال، والتي في الغالب محكومة بالمعادلة التالية جلب منفعة معتبرة، أو درء لمفسدة معتبرة…
ولعل الأسباب الثلاث التي أشار إليها المقريزي حاضرة في أزماتنا الحالية ، فمن المؤكد أن المناصب يتم الحصول عليها بالمال، و انتخابات 8 شتنبر 2021 خير مثال على الأموال الطائلة التي تم دفعها لشراء أصوات الناخبين المغاربة ، و شراء أصوات الناخبين الكبار لتشكيل المجالس، أما الغلاء فحدث و لا حرج فيكفي جولة على وسائط التواصل الاجتماعي لنعلم مدى عمق الأزمة و حدتها ، أما جولة في الأسواق فستصيب العاقل بالذهول من هول الأسعار، أما قيمة النقود و قوتها الشرائية فقد بلغت لأدنى مستوياتها..
فغلاء الأسعار والتضخم الجامح في أسعار الخضر و غيرها من السلع الغدائية لا يمكن بأي حال من الأحوال الإستمرار في ربطه بالظرفية الدولية “الأزمة الروسية الأوكرانية” ، أو بالظرفية المناخية “ضعف التساقطات المطرية “، فالأزمة الروسية مستمرة و تم تجاوز حالة التضخم المرحلي الفاحش الذي شهدته الأسواق الدولية، فأسعار المحروقات و السلع الأساسية عادت للاستقرار في الأسواق الدولية ، كما أن المغرب شهد في الشهور الماضية تساقطات مطرية مهمة لكن رغم ذلك الأسعار تسير في اتجاهها التصاعدي ، و تستمر في صعودها ، و هو ما يعني أن الأزمة بنيوية، كما أنا الغلاء لا يمكن بأي حال ربطه بنذرة الخضر والفواكه واللحوم ، بدليل أن مؤشر الصادرات لازال مستقر، و السلع التي من المفروض ان تغدي السوق الداخلية يتم ترحيلها باتجاه الأسواق الإفريقية..
وهو ما يعني أن الجشع والمضاربة والمصالح الخاصة للوبيات الفساد والريع التجاري تلعب دور أساسي في ارتفاع الأسعار و تجويع المغاربة، كما أن حكومة تضارب المصالح عاجزة عن إتخاذ إجراءات حاسمة و حازمة لإعادة الاستقرار و التوازن بين العرض و الطلب ، و ذلك أمر طبيعي فتضارب المصالح يمنع من اتخاد القرار المناسب .. و بلغة المقريزي فإن الفساد يزدهر عندما يكون المسؤول هو التاجر والفلاح والصانع والمتحكم في الانتاج وفي المغرب حكام اليوم يتحكمون حتى في كميات الاكسجين والطاقة….
هذا دون أن ننسى أن المخطط الأخضر الذي أشرف على تنفيذه السيد أخنوش عندما كان وزيرا للفلاحة والبر والبحر لسنوات ، هذا المخطط دمر الماء والتربة والبيئة ودمر الفلاحة المعيشية وقضى على الفلاح الصغير و قضى على أغلب السلالات المحلية من الأبقار و البذور…
للأسف الشديد نبهنا مبكرا من هذا الخطر، و محاضراتي للطلاب و مقالاتي و كتبي شاهد على ذلك ، لكن للأسف لا حياة لمن تناديني ، و ما نبهنا منه أصبح واقعا و أكدته جهات عليا في هرم مؤسسات الدولة المغربية..
فقد أشار قبل أيام ، المندوب السامي للتخطيط السيد أحمد الحليمي، في تصريح ل صحيفة “ميديا24″ إلى أن : ” الازمة التي نعيشها حاليا ليست عابرة ولا ظرفية، وما نسميه اليوم تضخما سوف يصبح أمرا واقعا دائما، أي أن مستوى الاسعار الحالية مستمر وليس عابرا، والسبب ليس الأزمات الدولية ولا الجائحة، بل سوء التدبير والتخطيط الذي قادنا إلى تجفيف مواردنا المائية وتحويل نموذجنا الإنتاجي في الفلاحة إلى مجرد حديقة خلفية للأجانب، مقابل تراجع الانتاج الوطني الموجه لتلبية الحاجيات الداخلية”
لذلك، عندما ندعو لإسقاط حكومة أخنوش و تشكيل حكومة إنقاذ وطني بعيدا عن مخرجات انتخابات 8 شتنبر ، فإننا نرغب في تجنيب البلاد مخاطر مستقبلية أشد سوءا مما نراه، حكومة أخنوش و من يدعمونه من الخلف – لأن الرجل لا يملك الشجاعة و الكفاءة لفعل ما يفعله لولا مظلة تحميه و تملي عليه ما ينبغي فعله و مالا ينبغي عمله – تضر بالمصالح الوطنية العليا، بل تخرب وتدمر القدرات الوطنية، وتهدد الاستقرار والسلم الاجتماعيين، حكومة أخنوش فاقدة للشرعية فقد أصبح فسادها و كذبها فاضح، و عجزها في خدمة مصالح الوطن و المواطن بين، و قد شهد شاهد من أهلها ، و لا أعتقد أن المندوب السامي للتخطيط أو والي بنك المغرب ينتمي للمعارضة أو الطبقات الشعبية التي سحقها الغلاء ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..