فشل الحكومة في مواجهة مشكلة التضخم وارتفاع الأسعار

ثلاثة مؤشرات برزت في الساحة السياسية المغربية، تشير لارتباك كبير في السياسات المالية وانعكاساتها الخطيرة على الواقع الاقتصادي والمالي والاجتماعي، أولها، تصريحات الناطق الرسمي باسم الحكومة، السيد مصطفى بايتاس، بأن إجراءات الحكومة لمواجهة ارتفاع الأسعار لم تستطع أن تقضي على الغلاء، وأن الحكومة لا تعرف الوسطاء والمضاربين، الذين سبق وأن اتهمتهم بأنهم السبب وراء معاناة المغاربة. ثانيها، بلاغ بنك المغرب الذي قرر رفع الفائدة إلى 3 في المائة، وأكد استمرار التضخم، وبواقع جد مرتفع يفوق تقديرات الحكومة بثلاث نقط ونصف، أي 5,5 في المائة بدل نسبة 2 في المائة التي حددتها الحكومة، وهو ما يعكس اتجاه السياسة النقدية إلى إبطاء النمو للتحكم في التضخم عكس السياسة المالية التي تستهدف رفع نسبة النمو عبر دعم المقاولات. الثالث، هو تصريحات المندوب السامي للتخطيط أكد فيها أن ارتفاع الأسعار سيستمر لمدة طويلة، وأن التضخم أضحى مشكلا بنيويا، وأن مصدره ليس خارجيا، بل هو داخلي بسبب قلة العرض، وأن رأس المشكلة تكمن في المخطط ألأخضر، الذي قاده رئيس الحكومة عزيز أخنوش، لما كان وزيرا للفلاحة في عدد من الحكومات المتعاقبة، وذلك بسبب توجهه إلى التسويق والتصدير، عوض تلبية الحاجيات المحلية.

ملخص هذه المؤشرات، أن مشكلة التضخم وارتفاع الأسعار، أضحت مشكلة الدولة، وليس مشكلة الحكومة، وأن المؤسسات المستقلة، كبنك المغرب والمندوبية السامية للتخطيط، خرجت لتبرئ ساحتها، وتدق ناقوس الخطر، وتعلم الجهات العليا، أن الاستمرار في السياسات الحكومية التي أقرها القانون المالي، ستخلق حالة كساح حقيقي، يظهر فيه الرأس منتفخا، والجسد كله عليل، إذ تتقوى ميزانية الدولة بفعل مداخيل الصادرات، وتتهاوى القدرة الشرائية للطبقات الوسطى والدنيا، ويعاني المغرب تضخما مزمنا قد يطول لسنوات إن لم تحل المشكلة من جذورها، وتصحح السياسات المالية، بقانون مالي تعديلي، أو بتعديل حكومي، يجعل من البعد السياسي حلال للمشكلة.
الرسالة التي التقطها المغاربة من عجز الحكومة، كما أظهرت ذلك تصريحات الناطق الرسمي باسمها، ومن بلاغ بنك المغرب الذي تم سحبه، ثم نشر بعد أيام، في دلالة على وجود خلاف بين الحكومة وهذه المؤسسة المستقلة، وأيضا من تصريحات المندوب السامي للتخطيط، أن هذه الحكومة، بدلا من أن تساير السياسات المالية لعدد من الدول الأوروبية وكذا بريطانيا التي اختارت إبطاء النمو للتحكم في التضخم، فقد انتهجت سياسات مالية تراهن على الرفع من نسبة النمو عبر دعم المقاولات، متغافلة أن المغرب يعيش تحديات مركبة (تداعيات كورونا، وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وتداعيات الجفاف الذي ضرب المغرب لثلاث سنوات متتالية) فاختارت أن تستمر في رهان التسويق والتصدير لملء جيوب المقاولات المحظوظة، وملء خزينة الدولة بإيرادات الضرائب والعملة الصعبة، وذلك على حساب قوت الشعب.

البعض يرى أن المشكلة تكمن في خلاف في النظر بين الحكومة وبين هاتين المؤسستين، وأن هذا الخلاف تم تسجليه أكثر من مرة مع حكومات سابقة، لكن في الجوهر، تبدو المشكلة أكبر من ذلك بكثير، لكونها مرتبطة ببنية الأحزاب المشكلة للحكومة، والتركيبة السوسيولوجية لمكونيها الأساسيين.

حزب الاستقلال يحتفظ بقدر من الخصوصية، بحكم خروجه من رحم الشعب، واضطراره لاعتبارات انتخابية للانفتاح على الأعيان ورجال الأعمال.

الأحرار والبام، يجتمعان في سوسيولوجيا واحدة، هو احتضان مجمع من رجال الأعمال والمصالح، اكتسب بعضهم خبرة ترحال سياسي طويلة، والتحق الآخرون لما نضجت لديهم فكرة أن توسيع قاعدتهم الاقتصادية يتطلب ضرورة المشاركة السياسية.

النموذج الحزبي داخل هذه الأحزاب، يقوم على ثلاثة محددات، الأول: توسيع القاعدة الانتخابية من مدخل العلاقة الاقتصادية (القاعدة الاجتماعية التي تبنيها مصالح رجل الأعمال) والثاني، القدرة المالية في إدارة الحملة الانتخابية. والثالث، قدرة الحزب على تجميع رجال المصالح وتدبير تناقضاتهم.

ضعف هذا النموذج يكمن في هامشية القاعدة الاجتماعية، وعدم وجود أي محتوى سياسي، فهذه الأحزاب لا تحتاج القاعدة الاجتماعية إلا في الاستحقاق الانتخابي، وهي تراهن على الخصائص الفردية للأعيان، لتحقيق الغرض، وهي لا تمتلك أي آلية لتدبير تناقض مصالح هؤلاء، عند الوصول إلى مربع التدبير الحكومي أو الجماعي.

لنأخذ أزمة الغلاء ونخضعها للتحليل السوسيولوجي بناء على قاعدة النموذج الحزبي، ولننطلق من التشخيص الذي قدمته الحكومة لارتفاع الأسعار، والذي يربط الأزمة بقلة الإنتاج، والوسطاء المضاربين، وتوجيه الإنتاج للتصدير في الوقت الذي تعاني فيه السوق الداخلية من قلة العرض.
لن نشكك كثيرا في عامل قلة الإنتاج بسبب العوامل المناخية، وذلك لسبب بسيط، أن الحكومة سقفت زمنه ببداية شهر رمضان. الناطق الرسمي باسم الحكومة، يقول بأن الحكومة، أوقفت التصدير، حتى تؤمن حاجيات السوق الداخلية، لكن مع ذلك، زادت المشكلة تفاقما.
معطيات وتيرة الإنتاج، تبين وجود حلقة غائبة، لا يمكن تفسيرها سوى بالشك في «قرار» توقيف التصدير.

التحليل الذي يعتمد قاعدة النموذج الحزبي، يقدم تفسيرا يلتقي مع ما انتهى إليها الناطق الرسمي حينما رفع الراية البيضاء، فالحكومة في الواقع، تعكس عجز أحزابها عن تدبير تناقضات رجال المصالح فيها، والذين يمسك كثير منهم بأجزاء مهمة من الدورة الزراعية والتجارية المرتبطة بالمواد الغذائية.

المواطن البسيط، علق على حملات السلطة على أصحاب محلات البقالة بسخرية، واعتبر أنها أخطأت الطريق حينما أعفت الكبار، واستهدفت الصغار.

المشكلة، أن وزير الفلاحة نفسه، لا يمتلك أي ورقة تفاوضية يمكن بها أن يقنع المنتجين، لا بتوجيه جزء مهم من زراعاتهم إلى السوق الداخلي، ولا بإقناعهم بخفض الأسعار، ولا إلى بإلزامهم بالتوقف عن التصدير، لسبب بسيط، أن جزءا من هؤلاء يؤثثون التركيبة السوسيولوجية للأحزاب الحكومية، وخيارات الحكومة أمامهم جد محدودة، لأنها إن أخرجتهم من دائرة المساءلة، ستواجه بمشكلة انتقائية التعامل، بمحاباة الذين تراهن عليهم في انتخابات أحزابها، والضغط على الخارجين من دوائر اهتمامها الانتخابي والسياسي، وإن هي اضطرت لمعاملة الجميع بقاعدة المثل، فإنها توشك أن تعصف بنموذجها الحزبي بشكل كامل.

الخيار الأفضل لديها هو اللجوء للاستعطاف وتمني الاستجابة، وذلك ما قام وزير الفلاحة، السيد محمد الصديقي، حينما اجتمع بمختلف الفاعلين في الدورة الزراعية والتجارية المتعلقة بالمواد الغذائية.

المعضلة الأكبر، أن ارتفاع أسعار المنتوجات الموجهة للداخل، وتنامي الصادرات، يخدم خزينة الدولة، ويرفع وعاءها الضريبي، وربما تشعر الدولة، أنها أضحت قادرة على تقوية قدراتها الدفاعية ومواكبة الطموح الدبلوماسي في حسن التموقع الخارجي، وتحقيق نقاط مهمة في ملف الوحدة الترابية، فتتولد فكرة طلب السلم الاجتماعي على حساب تحقيق شروطه، أو تتولد فكرة التضييق على مساحة الحرية، لسد الطريق على المستثمرين المحتملين للاحتقان.
تاريخ الممارسة السياسية للدولة، يثبت محورية السلم الاجتماعي، ويثبت معه، أن الأحزاب التي يقوم نموذجها الحزبي على مركب المصالح، لا تستقل وحدها بإدارة الحكومة، لأن نتيجة ذلك هو رهن مصالح الدولة العليا للوبيات المصالح.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: