هل سنصحو يوما على برقية لوكالة الأنباء الجزائرية شبيهة إلى حد ما بتلك التي أصدرتها الجمعة الماضية حول المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين الجزائري والفرنسي يقول نصها هذه المرة: «تحادث مساء اليوم رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون وملك المملكة المغربية محمد السادس حول عدد من المسائل وقد سمح الاتصال الهاتفي بإزالة كثير من اللبس وما ترتب عنه من تصدع على مستوى العلاقات الثنائية، واتفق القائدان على تعزيز وسائل الاتصال بين إدارتي الدولتين حتى لا تتكرر مثل هذه الحالات. وأبلغ رئيس الجمهورية نظيره المغربي بعودة السفير الجزائري قريبا إلى الرباط»؟
المتشائمون يرون أنه من سابع المستحيلات أن يحصل ذلك، ويعتبرون أن لا وجه للشبه بين هذه وتلك، إذ ما أبعد علاقة الجزائر بباريس، كما قد يقولون، عن علاقتها بالرباط. كما أن آخرين مثلهم أيضا قد يضيفون، أن الأزمة الجزائرية الفرنسية كانت سحابة عابرة، لكن الأزمة الجزائرية المغربية ليست بأي حال كذلك، لكن لننظر مليا لما جرى على الأقل في غضون السنتين الماضيتين في المحيط الإقليمي للبلدين، لقد تصالح الخليجيون في2021 في قمة العلا في السعودية، وحتى لو لم يذب اليوم تماما فقد بدأ الجليد بين الرياض وطهران في السيلان، ومن المنتظر أن تستأنف السفارتان المعتمدتان في البلدين في غضون أسابيع قليلة فقط عملهما، وبالمثل فإنه حتى إن لم تعد بعد علاقات تركيا بمصر إلى ما كانت عليه قبل فترات سابقة، فقد فتحت مصافحة أردوغان والسيسي على هامش حضورهما افتتاح كأس العالم في قطر الطريق نحو ذلك. وكما قال الرئيس التركي في تصريحات صحافية، تلت تلك المصافحة الشهيرة، فإن الأمور يمكن أن تعود أيضا «إلى نصابها في العلاقات مع سوريا خلال المرحلة المقبلة، لأنه «ليست هناك خصومة دائمة في السياسة» على حد وصفه.
ما يتطلع إليه المغاربيون، أن تفتح نافذة ولو صغيرة في الجزائر للأمل بمستقبل آخر مع المغرب، لا يرفع فيه الفيتو بل تنزاح فيه من طريقهما كل الحواجز
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو أين يعيش الجزائريون والمغاربة في كل ذلك وهل تراهم منفصلين عن الأرض ويقيمون على كوكب آخر؟ وهل أن تخلفهم عن قطار المصالحات ما يزال مقبولا؟ ثم هل أن التحاقهم به ولو بشكل متأخر في غضون الشهور المقبلة يبدو ممكنا؟ من الواضح جدا أن الأمر لا يرتبط برغبة جهة دون أخرى، بل يحتاج لإرادة مشتركة من الطرفين. وبالنسبة للمغاربة فقد عبّر هؤلاء وفي أكثر من مناسبة عن تطلعهم للمصالحة، ولطي صفحة الخلافات كان أبرزها تخصيص العاهل المغربي لفقرات طويلة من خطابه في يوليو 2021 لتلك المسألة، وتوجهه في ذلك الحين للجزائريين بالقول: «لا الرئيس الجزائري السابق أو الرئيس الحالي أو أنا مسؤولون عن قرار الإغلاق – أي إغلاق الحدود بين البلدين – ولكننا مسؤولون سياسيا وأخلاقيا أمام الله والتاريخ ومواطنينا عن استمرار إغلاقها»، ثم تأكيده لهم بعدها على أن «الشر لن يأتيكم من المغرب، أو أي خطر أو تهديد ما يصيبكم يصيبنا واستقرار الجزائر من استقرار المغرب والعكس صحيح»، قبل أن يدعو «فخامة الرئيس الجزائري للعمل سويا في أقرب وقت يراه مناسبا على تطوير العلاقات الأخوية التي بناها شعبانا عبر سنوات من الكفاح المشترك»، على حد تعبيره. غير أن ذلك لم يقابل من الطرف الآخر بالاستعداد لأي حوار أو حتى وساطة تفضي إلى الجلوس إلى طاولة مفاوضات مفتوحة وغير مشروطة لحل الخلافات والقضايا العالقة بين البلدين. ومن الواضح أن ما قاله الرئيس الجزائري الثلاثاء قبل الماضي لقناة «الجزيرة» ردا على سؤال حول علاقة بلاده مع المغرب من أنها «وصلت إلى نقطة اللاعودة» يعني استمرارا لذلك الاتجاه، وهذا ما يبعث على الحيرة. فلماذا يصر الجزائريون على سد الأبواب ولا يتركون ولو منفذا صغيرا أمام احتمال التوصل لصلح مع جارتهم الغربية؟ ألا يقولون حين يقفون مع جبهة البوليساريو التي تصفها الرباط بالانفصالية، إنهم يفعلون ذلك فقط لأنهم ملتزمون بمبادئ ثورتهم، فهل إن رفعهم للفيتو بوجه إعادة العلاقات الطبيعية مع المغرب يمكن أن يكون أيضا من منطلق تمسكهم بتلك المبادئ؟ من المؤكد أن نجاح الثورة الجزائرية يعود وفي جزء كبير منه إلى الدعم الذي تلقته من المغرب، وكذلك تونس وليبيا. والأدلة على ذلك كثيرة ولنتذكر فقط كيف أن مؤتمر طنجة مثلا الذي عقد عام 1958 وشارك فيه حزب الاستقلال المغربي والحزب الدستوري الجديد التونسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، شدد على أن استقلال الجزائر هو شرط بناء المغرب الكبير، وكيف أنه وجه الدعوة لكل المغاربيين لتقديم مساندة لا محدودة لجبهة التحرير في نضالها من أجل التخلص من الاستعمار الفرنسي. فهل كان أحد ممن حضر ذلك المؤتمر يتخيل أنه سيأتي اليوم الذي يبرر فيه البعض وباسم مبادئ تلك الثورة العظيمة أن يتم ترسيخ القطيعة مع بلد جار كان سندا مهما لها؟ لكن إن لم تكن تلك المبادئ هي المبرر لذلك فهل أن المصالح يمكن أن تكون السبب؟ لقد تطلعت الجزائر ومنذ الستينيات إلى بعيد ونظرت إلى مناطق وآفاق قصية في العالم، وتداخلت في ذلك عدة اعتبارات. غير أن المشكل هو أن الجزائريين الذين كانت لهم علاقات وطيدة بالشرق والغرب معا لم يضعوا في اعتبارهم على ما يبدو أن لهم مصالح أيضا مع المغرب. لقد تغاضوا عن ذلك أو حاولوا في الغالب تجاهله. ولنتصور فقط كيف كان سيكون وضع الجزائريين والمغاربة في حال ما إذا كانت علاقة البلدين ولو في الحد الأدنى طبيعية؟ ربما قد يقول قائل إن الجزائر بلد ثري وغني بالموارد وليست بحاجة لا للمغرب ولا لغيره، لكن لنعكس الآية، هل أن الجزائر القوية والغنية تحتاج فعلا لمعادة المغرب؟ أم أنها ستزداد غنى وقوة بالمصالحة والتعاون معه؟ أليس الأولى أن تصرف ملايين الدولارات التي تنفق الآن في البلدين على التسلح على أشياء أخرى تسهم في فتح فرص وآفاق أرحب أمام الشعبين؟
لقد بقي مسار العلاقات الجزائرية المغربية محكوما بالفعل بكم هائل من الخرافات والأحكام المسبقة. وكم كانت الدبلوماسية الجزائرية التي قال عنها الرئيس الجزائري في مقابلته الأخيرة مع «الجزيرة» أنها تعمل في صمت قادرة على تخطي ذلك والتقدم بمبادرات لدحض ما يتوهمه كثيرون في البلدين من أن خلافاتهما ليست قابلة للحل وأن القطيعة الموجودة الآن بينهما هي أفضل ما يمكن فعله لحقن دماء شعبيهما، وتجنب أسوأ السيناريوهات، لكن إن لم يحصل ذلك اليوم فهل معناه أنه لن يكون ممكنا في الغد؟ قطعا لا. ولأجل ذلك فإن كل ما يتطلع إليه المغاربيون اليوم هو أن تفتح نافذة ولو صغيرة في الجزائر للأمل بمستقبل آخر مع المغرب، لا يرفع فيه الفيتو، بل تنزاح فيه من طريقهما كل الحواجز والأوهام التي أضاعت على الشعبين وعلى المنطقة المغاربية ستين عاما من الصراعات والمنافسات العقيمة. أن ذلك ورغم كل شيء ليس قطعا بالمستحيل.
كاتب وصحافي من تونس