وجهة نظر المؤرخ عبد الله بوصوف… هل ينقل “الربيع الفرنسي” فرنسا إلى “الجمهورية السادسة”؟
شهدت العديد من ساحات وشوارع المدن الفرنسية، إحتجاجات عارمة وإضرابات شلت بعض المرافق والخدمات العمومية على خلفية تداعيات قانون إصلاح نظام التقاعد ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 ، وهو الإحتجاج الذي وحّـد أطياف المعارضة السياسية الفرنسية ودفع مختلف مكونات المجتمع الفرنسي من نقابات عمالية وطلاب الجامعات وشخصيات سياسية وحزبية وفكرية وإعلامية إلى الإصطفاف إلى جانب المعارضة في الشارع للتعبير عن رفضها للطريقة التي إختارتها رئيسة حكومة ماكرون لتمرير هذا القرار بتطبيق الفقرة 3 من المادة 49 من الدستور ، دون الحاجة الى التصويت عليه داخل البرلمان الفرنسي. وهو ما وصفه البعض بالقفز على الديمقراطية أمام دفاع رئيسة الحكومة “اليزابيت بورن” عن موقفها وتصريحها بأن المادة 3-49 ” ليست من إختراع ديكتاتوري” (وكانت تعني به الجنرال ديغول).
لقد نقلت عدسات الصحافة العالمية عمليات الإحتجاج وحرق حاويات الأزبال في كل من باريس وليون وليل وبوردو ومرسيليا في مارس 2023 ، ونقلت خبر إعتقالات بالجملة للمحتجين ومنع السلطات لمسيرات وإحتجاجات في ساحات معينة خاصة بباريس ، وهي مشاهد تذكرنا بإحتجاجات “السترات الصفراء” منذ سنة 2018 بالعديد من المدن الفرنسية ، كما وثقت وسائل الإعلام مشاهد لإستعمال العنف المفرط ضد المحتجين من الطلبة والعمال وسكان الضواحي مما هـزّ صورة فرنسا حقوق الإنسان وحرية التعبير وفرنسا ” الغرب المُعَـلِّـم”.
فالإنتصار “الصغير” لحكومة “بورن” لا يعني نهاية كابوس الإحتجاجات ، بل هناك آلـيات دستورية ومسارات قانونية تُمـكّـن المعارضة من التعبير عن رفضها ورغبتها في إلغاء القانون ، كاللجوء للمحكمة الدستورية أولًا ، ثم تنظيم إستفتاء شعبي بتوقيع خُمُس النواب أي 185 نائبًا وجمع توقيعات عُـشُـر الناخبين أي حوالي 4,87 مليون ناخب.
وإذا كانت السيدة «اليزابيت بورن” قد نجت بصعوبة من تصويت حجب الثقة عن حكومتها يوم الإثنين 20 مارس بفارق 9 أصوات فقط، وتجنبت بالتالي إلغاء قانون إصلاح التقاعد وحل الحكومة وإدخال فرنسا في نفق سياسي وإضطراب إجتماعي في ظروف عالمية مفصلية تتميز بحرب أوكرانيا وتحرك ديبلوماسي صيني غير مسبوق في إفريقيا والخليج العربي ، فإن نتائج التصويت حملت معها رسائل التصدع في تيـار حلفاء ماكرون غير المعلنين ، أي الحزب الجمهوري . إذ تحدثت تقارير إعلامية عن تصويت 61 نائبا جمهوريا أو نصفهم ضد حجب الثقة عن الحكومة ، لكن القول بأن الفارق كان هو 9 فقط هو تـمـدد لرقعة الرافضين حتى داخل من أعلن عن نيته للتصويت لصالح قانون إصلاح التقاعد.
من المعروف أن سن التقاعد بفرنسا هو الأقل مقارنة مع بعض الدول الأوروبية بالإضافة الى الكلفة المالية والإقتصادية لسن التقاعد إرتباطًا مع الهندسة الديمغرافية الفرنسية ، ينضاف إلى ذلك إرتفاع نسبة التضخم ونزول نسبة البطالة الى 7%. لكننا نعتقد أن كل من الرئيس الفرنسي ماكرون والمعارضة السياسية والمجتمعية يعرفون جيدا أن الأمر يتجاوز بكثير مجرد صراع سياسي حول ملف إجتماعي واقتصادي أي ملف التقاعد.
فكلا الفريقين على دراية بالمساطر الدستورية والقانونية للعـرقـلة أو لـتجاوز العرقلة ، فهل مرجع الإختلاف إذن هو شخصية “إيمانويل ماكرون” الذي يُـنْـعت برئيس الأغنياء مرة وبالرئيس ” المُتـوّج” مرة ، و”بالملك لـويس” مراتٍ آخرى؟ أم أن الصراع السياسي هو حول “الجمهورية الخامسة ” وضرورة تعويضها ب “السادسة” كما يطالب “جون لوك ميلونشون ” زعيم تحالف NUPES؟
لقد وصف اليساري “إيمانويل فالس” رئيس الحكومة في عهد الرئيس فرانسوا هولاند حيث كان يتولى ماكرون حقيبة المالية ، الأزمة الحالية بكونها “أزمة أخلاقية “، معتبرا أنه كان من الأفضل تجاوز أساليب “القـوة” سواء في مواجهة المحتجين أو بتوظيف المادة 49-3 ، خاصة وأن هذه الأزمة جاءت بعد الجولة “الفاشلة” للرئيس ماكرون بدول غرب إفريقيا وما صاحبها من تغطية إعلامية ساخطة على فرنسا وتاريخ فرنسا بمستعمراتها ، وعجـز الرئيس ماكرون عن “إنقــاذ مـاء وجه” فرنسـا خلال تلك الزيارات الإفريقية.
في المقابل ، كانت لتداعيات قانون التقاعد الجديد خلفيـة سياسية قوية لعودة نقاش صلاحيات الرئيس الفرنسي وعلاقته بالمؤسسات الأخرى ، خاصة الحكومة والبرلمان ، ومدى توفير دستـور 1958 الذي وضعه ديغول التوازن اللازم بين تلك المؤسسات ، والتساؤل حول طبيعة النظام الرئاسي الفرنسي الذي يصفه البعض بأنه يجعل رئيس الجمهورية “ملكا” غير معلن. ويبقى التساؤل قائما هل ما تعيشه فرنسا اليوم يتعلق بمخاض سياسي لميلاد الجمهورية السادسة وإعلان توازن دستوري جديد يجيب على إنتظارات المعارضة؟ مثل تقليص صلاحيات الرئيس كتعديل المادة 9 التي تسمح للرئيس بترأس المجلس الوزاري ، والمادة 12 التي تخول له حل البرلمان بعد مشاورات غير ملزمة مع رئيس الحكومة ورئيسيْ الشيوخ والبرلمان ، والمادة 16 وما تخوله من إتخاذ قرارات وسلطات إستثنائية ، ومواد أخرى تتعلق بحرية تعيين الوزير الأول وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية (3 فيهم الرئيس)، أو حرية تحريك إستفتاءات شعبية وغيرها…
لقـد عاد الحديث بقوة حول أسباب نزول الصلاحيات القوية لمؤسسة رئيس الجمهورية الفرنسية في دستور الجنرال ديغول سنة 1958 ، وكيف صاغها على مقاس شخصيته القيادية وتاريخه النضالي ، ورغبته في تجاوز أسباب سقوط “الجمهورية الرابعة ” التي تميزت بسيطرة الأحزاب ومؤسسة البرلمان على المشهد السياسي ومشاكل تلك الفترة والحرب بالجزائر الفرنسية… لذلك اقترح سنة 1962 إجراء استفتاء دستوري حول الإنتخاب المباشر لرئيس الجمهورية ، مما يقوي من شرعيته الشعبية أمام مؤسسة البرلمان ، وهي نفس الشرعية التي يستمد منها ماكرون وغيره من الرؤساء الفرنسين السابقين لتبريـر كل توظيف للمادة 49-3 ، أي تبريـر حالات القفز على مؤسسة تمثيلية ديمقراطية من أجل تمرير قوانين تختلف حولها التصورات السياسية.
فالصراع اليوم في فرنسا إذن لا يمكن إختزاله فقط في صراع حول إصلاح نظام التقاعـد ، بل هو صراع حول توازن الأدوار الدستورية للمؤسسات وحول إعادة توزيع السلط وتوازنها ، وهو حاجة فرنسا الى تجاوز مرحلة الجنرال ديغول ، على إعتبار أن تدبير الرئيس ماكرون الحالي يُهـدد بخسارة فرنسا لموقعها السياسي والإقتصادي كقائد في الإتحاد الأوروبي ، وكشريك قوي بدول غرب إفريقيا وغيرها في شمال افريقيا والخليج العربي. كما يمهـد الطريق لليمين المتطرف نحو قصر الإيليزي فـي الرئاسيات القادمة أمام تراجع الأحزاب التقليدية كاليسار والجمهوريين وانتكاسة حزب ماكرون في التشريعيات السابقة.