الافتراض القائل بأن الرئيس عبدالمجيد تبون مضطرب، أو يتخبط كالغريق، غير صحيح. المضطرب والذي يتخبط هو نظامه الذي لا يعرف ماذا يريد من وجوده هو نفسه، دع عنك أنه لا يعرف ماذا يريد من علاقاته الإقليمية والدولية، ويغرق بأوهامه إلى درجة أنه يرى “مؤامرة” تحاك ضده من كل جهة وجانب.
الجزائر في حالة ركود قاتل، أشبه بركود المغمى عليه. مؤسسة السلطة التي تناوب عليها راكدون وراقدون، بالكاد تعمل على تدبير شؤون اليوم في كل يوم، وذلك في نوع من آليات التسيير التلقائي التي لا تعرف هدفا أبعد من “الاستقرار” الذي يضمن للنخبة الحاكمة استقرارها هي. لا توجد حركية في المجتمع، لأنه لا توجد حركية في السياسة. كما لا توجد تحديات، ولا حتى تنموية، لأن النفط والغاز يوفران دخلا معقولا يكفي لتصريف أعمال الاستقرار. وفي هذا ما يكفي. كما أن فيه ما يبرهن على أن كل شيء مستقر وراسخ. والنخبة ظلت مطمئنة إلى أنها تفعل الشيء الصحيح، حتى تحولت البلاد إلى جثة محنطة بفكرة أن الاستقرار والتكرار هو دليل العافية، وأنها ليست في حاجة إلى تغيير أو إصلاح، لأن في ذلك ما يصنع القلاقل.
الانتفاضة التي اندلعت في فبراير 2019 لم تكن بالأحرى انتفاضة ضد إعادة ترشيح رئيس مشلول للرئاسة. كانت في الواقع انتفاضة ضد مؤسسة نظام هي نفسها جثة.
الجزائر تعادي 38 مليون مغربي، بينهم نحو 600 ألف مواطن في الصحراء، لحساب لاجئين 30 في المئة منهم لا يمكن إثبات نسبه إلى الصحراء المغربية. فمنهم جزائريون ومنهم قبائل ومنهم مرتزقة
لم يكن مقدرا لهذه الانتفاضة أن تفشل. ولكن جثمان المؤسسة الحاكمة الثقيل أطبق على الحراك الشعبي، وحاول أن يفرض عليه الصمت تحت تهديد “المؤامرة”، قبل أن يقرر بعض إجراءات التجميل.
تقول الحكاية، إن تظاهرات اندلعت في العام 1975 ضد سلطة الحزب الشيوعي السوفياتي. فعقدت اللجنة المركزية اجتماعا طارئا لتسأل نفسها عمّا يريده الناس. فقالت التقارير الرسمية إن الناس ضاقوا ذرعا من الملل، ويريدون بعض الترفيه. فقررت اللجنة المركزية إقامة ملهى كبير في موسكو. ذهب الناس إليه. ولكنهم عادوا ليتظاهروا بعد بضعة أيام. فاجتمعت اللجنة المركزية من جديد لتبحث الأزمة. فقال “الرفيق” الذي تكلف بإقامة الملهى، إن كل شيء رائع في الملهى، من الديكور إلى الأضواء إلى الموسيقى حتى أن راقصة الباليه عضو في الحزب منذ العام 1905.
شيء من هذا القبيل حصل في الجزائر بعد تلك الانتفاضة. إنما على سبيل الاستلهام الدائم للتجربة السوفياتية. فالرفيق الذي تولى الرئاسة من بعد الانتفاضة ولد مجاهدا منذ العام 1945، وصار عضوا في جبهة التحرير الوطني منذ العام 1960، وجزءا من دوائر النظام منذ العام 1975، وحامل حقائب وزارية متعددة منذ العام 1991.
لم تعن محاولة التجميل التي حملها الرئيس عبدالمجيد تبون شيئا، بالنسبة إلى مقاربات النخبة الحاكمة لطبيعة النظام، وتحدياته الوهمية، ولا لطبيعة نظرية المؤامرة التي يغرق بفكرة أنها تُحاك ضده. وبالتأكيد، فإن “كل شيء رائع في الجزائر” إلى درجة أنه لا يحتاج إلى تغيير. فالطعام متوفر، لولا مؤامرات بعض التجار. والمساكن متوفرة، لولا مؤامرات بعض الفاسدين، والأمن مستتب لولا مؤامرات المغرب، والعلاقات الدولية مستقرة، لولا مؤامرات بعض الدول. والجزائر بخير لولا أنها “تواجه تحديات أمنية على حدودها، وهي محاصرة جغرافيا”.
أما الحريات فإنها متاحة للجميع لولا بعض الأصوات المرتبطة بمؤامرات الخارج التي تطلب المزيد. ومنها الحريات الصحافية. فهناك 8500 صحافي و180 جريدة يومية و20 قناة تلفزيونية خاصة. سوى أن هناك نوعين من الصحافة والإعلام، الأول يسب ويشتم ويتلقى أموالا من الخارج. والثاني يلهج بمديح الرئيس تبون إلى درجة باتت تثير الإحراج، ما اضطره إلى إصدار قرار للجميع بالتوقف عن التملق. فهناك مَنْ كان يعتزم عقد لقاء تحت عنوان “التحليل السوسيولوجي لخطاب الرئيس عبدالمجيد تبون في القمة العربية”. وهناك مَنْ خشي الرئيس أن يمارس حريته في كتابة مقالات بعنوان “إبستمولوجيا البرنامج الانتخابي المقبل للرئيس تبون”، و”أنطولوجيا النظرة الثاقبة لتوجيهات الرئيس تبون”، و”بيداغوجيا المهارات السياسية لدى الرئيس تبون”.
المقابلة التي أجراها الرئيس تبون مع “قناة الجزيرة” أشارت إلى كل ما هو رائع في الجزائر وفي علاقاتها الخارجية، حتى أنها يمكن أن تقوم بوساطة لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا. سوى أن العلاقة مع المغرب عادت لتكشف عن طبيعتها المثيرة للعجب.
قال الرئيس تبون إن العلاقات مع المغرب “وصلت إلى نقطة اللاعودة”. ولكنه لم يقل لماذا؟ أو ماذا فعل المغرب للجزائر لكي تبلغ معه هذه النقطة. أفهل، على سبيل المثال، قام المغرب بتمويل حركة مسلحة تشن عمليات إرهابية داخل الجزائر؟ هل اشترى المغرب طائرات مسيّرة من إيران لكي تهاجم الجزائر؟ أم هل تراه تعاون مع حزب الله، التنظيم الإرهابي المعروف، لتدريب مقاتلين لكي يرسلهم إلى تندوف؟ أم أن العكس تماما هو الذي حصل؟
مصدر الاضطراب والتخبط، لا يأتي من الرئيس تبون. فهو يُصرّح بما تُصرّح به اضطرابات النخبة العسكرية الحاكمة
والحرب بين أوكرانيا وروسيا التي يمكن للجزائر أن تتوسط فيها لأجل تسوية سياسية، أهي أقل عنفا من “الحرب” القائمة بين الجزائر والمغرب بحيث لا يمكن لأيّ أحد أن يتوسط فيها؟
قال الرئيس تبون إن “القضية الصحراوية هي بالنسبة إلى الجزائر قضية تصفية استعمار”. و”إن اسبانيا عرضت على الجزائر أن تضم الصحراء إليها فرفضت”.
لو كانت تلك القضية قضية “تصفية استعمار” حقا، فالاستعمار الاسباني رحل. والمغرب لم يرفض ما رفضته الجزائر. استعاد سيادته على أراضيه فحسب.
المفوضية السامية للاجئين قدرت عدد سكان مخيمات تندوف في العام 2018 بـ173600 شخص.
الجزائر تعادي 38 مليون مغربي، بينهم نحو 600 ألف مواطن في الصحراء، لحساب لاجئين 30 في المئة منهم لا يمكن إثبات نسبه إلى الصحراء المغربية. فمنهم جزائريون ومنهم قبائل ومنهم مرتزقة.
والجزائر هي التي بادرت إلى إغلاق الحدود بين البلدين منذ العام 1991. وقطعت كل أشكال العلاقات مع المغرب منذ العام 2021، وحرمت إسبانيا من الغاز الجزائري المار عبر الأراضي المغربية لكي تحرمه. وتجاهلت كل الدعوات التي وجهها العاهل المغربي شخصيا لرأب الصدع بين البلدين. كما رفضت وساطة السعودية أيضا. حتى لكأن الحرب بين الجزائر والمغرب أعنف من الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
مصدر الاضطراب والتخبط، لا يأتي من الرئيس تبون. فهو يُصرّح بما تُصرّح به اضطرابات النخبة العسكرية الحاكمة. هذه النخبة تعيش في بيئة اعتقادات ثلاث: الأول، كل شيء رائع في الجزائر. والثاني، أن الجزائر تتعرض لمؤامرات من الخارج. والثالث، أن الاستقرار مكسب، حتى ولو قعد النظام على كرسي متحرك.