في نسق كرونولوجي، وقبل شهرين من الآن قال عبدالإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، في لقاء حزبي إن موقف حزبه من التطبيع مع إسرائيل “لم يتغير ولن يتغير، وسيظل ضده بدون شك ولا خلاف، لسبب بسيط، وهو أن الإسرائيليين ما زالوا يسيؤون إلى إخواننا الفلسطينيين ويأخذون أراضيهم ويجرفون أشجارهم ويعتدون عليهم”.
تطور الأمر في التاسع من مارس الجاري، عندما أصدرت الأمانة العامة لحزب بنكيران بيانا قالت فيه إنها “تستهجن المواقف الأخيرة لوزير الخارجية المغربي الذي يبدو فيها وكأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في بعض اللقاءات الأفريقية والأوروبية، في وقت يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الإجرامي على الفلسطينيين”.
لم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك، ليصدمهم الديوان الملكي صباح الاثنين الثالث عشر من مارس ببيان حاسم وشامل في لغته وقوة منطقه، مشددا على أن ما قاله الحزب مرفوض جملة وتفصيلا، لأن “موقف المغرب من القضية الفلسطينية لا رجعة فيه، وهي تعد من أولويات السياسة الخارجية للملك محمد السادس، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، الذي وضعها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة، وأن هذا موقف مبدئي ثابت للمغرب، لا يخضع للمزايدات السياسوية أو للحملات الانتخابية الضيقة”.
◙ علاقات المغرب مع إسرائيل ليست ترفا دبلوماسيا أو خفة سياسية من طرف المخططين الإستراتيجيين في المملكة، ولا هي مجرد إكراه سياسي جيوستراتيجي فرضته الظروف الدولية
إذن ما الذي حدث بين يناير ومارس؟ ما حدث أن بنكيران تمادى في اعتراضه على قرار سيادي للدولة المغربية، وهو موقف لم تفاضل فيه بين علاقاتها مع إسرائيل ودفاعها عن قضية فلسطين الذي استمر باستماتة لعقود من الزمن. بنكيران شعر أنه حر في التعاطي مع قرار إستراتيجي مكفول للمؤسسة الملكية، وأراد فرض وصايته الحزبية على تدبير الشأن الخارجي.
يقودنا هذا إلى جانب أكثر قتامة في هذه القضية وهو التحيز المتأصل للحزب كبنية هوياتية يضع أعضاءه مقابلا مساويا للمجتمع والدولة التي يعيشون فيها. والأسوأ من ذلك، الانحياز لكل ما يخدم الحزب وإن كان يضر بالدولة.
في أكتوبر 2021 انتخب المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية رئيس الحكومة السابق بنكيران أمينا عاما للحزب الذي فقد زعامته منذ خمس سنوات، فماذا قدم للحزب بعد عودته؟ لا شيء سوى تخمة من بلاغات لم تسترد للحزب شعبيته ولا ثقة الناس في كلامه. حزب يقتات على قضايا محسومة تحدث عنها الكل بطريقة أفضل.
ما أراد الديوان الملكي إيصاله إلى بنكيران هو أن الحكومات تتغير، لكن مؤسسات الدولة العميقة باقية لا تتغير، يحافظ على استمراريتها كونها ليست شركة خدمات عامة كما أرادها البعض. ليتضح أن العدالة والتنمية استثمر في صفقة سياسية خاسرة، عندما وضع الدولة المغربية وكأنها تفاضل بين شرعية القضية الفلسطينية واستعادة المغرب لعلاقاته مع إسرائيل.
عشر سنوات في الإدارة اليومية للشأن الحكومي ذهبت هباء. من المفروض أن بنكيران يعرف الطريقة التي تعمل بها الدولة المغربية، والمفروض أنه مطلع على ملفات ومعلومات غاية في الحساسية، والطبيعي أن يتميز موقفه برصانة رجال الدولة، وليس بخفة الشعبويين.
عندما أتيحت لهذا الحزب المشاركة في اللعبة السياسية، كان الرهان على أن يفهم أعضاؤه ثوابت النظام السياسي، الذي يراقب ويضمن التوازن بين مكونات المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي، وأن يعلم مؤسسوه أن المغرب انخرط منذ زمن طويل في القضية الفلسطينية وكانت له مواقف بارزة من تسلط إسرائيل على الفلسطينيين. بالتالي، أن تتم المزايدة على الدولة من بوابة القضية الفلسطينية وتوظيفها كشعار انتخابي في سياق إقليمي مشتعل، فهذا يعني أننا أمام حزب لم يتعلم أعضاؤه ميزة ممارسة السياسة بأدوات تميز بين الفصول.
للأسف، ما قام به حزب العدالة والتنمية ليس صفقة يمكن ترجمتها إلى أي شيء ملموس، بل سياسة هواة. ونتساءل أين كان سعدالدين العثماني الذي خبر دواليب صناعة القرار الخارجي عندما كان يترأس الوزارة؟ هل استفرد بنكيران بصياغة هذا البيان أم تم إشراك آخرين فيه؟ وعلى العموم، تنكر الأمين العام للحزب بصفته مؤسسة رسمية للاتفاق الذي وقعه سلفه بيده بصفته رئيسا للحكومة والحزب أمام العاهل المغربي الملك محمد السادس بصفته رئيس الدولة المغربية.
◙ بنكيران تمادى في اعتراضه على قرار سيادي للدولة المغربية، وهو موقف لم تفاضل فيه بين علاقاتها مع إسرائيل ودفاعها عن قضية فلسطين الذي استمر باستماتة لعقود من الزمن
ما قام به بنكيران هو استجابة لشيطان السياسة في أدنى مستوياتها، عندما يبدي انزعاجا جوهريا من صعود أحزاب بعينها مقابل خفوت نجمه الانتخابي، على الرغم من أن هذا هو الوضع الطبيعي لحزب تركت له الفرصة لولايتين لم يسبقه إليها أي من الأحزاب. أيضا، لا يمكن تجاهل الرأي العام المغربي الذي أدى إلى عزل الحزب بعد أدائه السلبي.
واضح أن بنكيران لم يستوعب ما قام به الملك محمد السادس عندما منح حزبه شرف إدارة وزارة الخارجية، في شخص سعدالدين العثماني في بدايات حكم العدالة والتنمية، وهي وزارة سيادية تحتاج إلى طاقة كبيرة من الصبر الدبلوماسي والتفوق على الذات واتزان ورجاحة العقل وصفائه.
الكل يعرف أن العدالة والتنمية المغربي يرى في نظيره التركي نموذجا يقتدي به. وهنا نستحضر تصريحات بنكيران لإحدى الصحف قبل سنوات عندما قال “ينبغي أن نعترف أن حزب العدالة والتنمية التركي هو حزب من حجم آخر وبعد آخر، لا على مستوى الإنجاز ولا على المستوى الفكري ولا على مستوى الطرق والوسائل”. شهادة بنكيران في هذا النموذج التركي لا تتخللها شائبة، رغم ارتباطه بإسرائيل بشكل شامل وعلى كافة المستويات. فلماذا هذا الموقف المتشنج من سياسة خارجية يخطط لها الملك وتنفذها وزارة الخارجية أيا كان على رأس هذه الوزارة؟
علاقات المغرب مع إسرائيل ليست ترفا دبلوماسيا أو خفة سياسية من طرف المخططين الإستراتيجيين في المملكة، ولا هي مجرد إكراه سياسي جيوستراتيجي فرضته الظروف الدولية، بل قناعة ضاربة في العمق الحضاري للدولة وفي طريقة صنع وإدارة قرارات السياسة الخارجية.
جزء من انزعاج بنكيران يأتي من فشله في التصالح مع الظروف الجديدة التي تجاوزت إلى حد كبير طريقة عمله في سياق الواقع الجديد بعد كورونا وفي عز تداعيات الحرب الأوكرانية – الروسية. وأيضا في وقت الاستقلال المغربي عن الطريقة التي كان يدير بها أموره والتي جعلت دولا بعينها لا تقبل خروج الرباط عن الخط، وتعمل بكل ما لديها من أسلحة ابتزاز على إجبارها لتبقى رهينة تلك الدول.