أصبحت المملكة المغربية بلا منازع أكثر الدول العربية خبرة، وأرفعها مكانة في صناعة السيارات، وهي الآن بالفعل حلقة مهمة من حلقات سلاسل الإنتاج العالمية لواحدة من أهم الصناعات الهندسية القائدة في العالم، التي تجر وراءها عشرات الصناعات الأخرى، وترتبط بشرايين واسعة مع صناعات الطاقة والصناعات الهندسية والطيران والفضاء والتمويل. كما أن المغرب يتقدم بسرعة على طريق الانتقال إلى عصر صناعة السيارات الكهربائية، ليصبح رائدا من رواد صناعة السيارات الصديقة للبيئة في العالم. ولكل هذا فإن شركات السيارات العالمية، وعلى رأسها ستيللانتس، ورينو – نيسان، وبي واي دي، تتسابق على إقامة وتوسيع مراكز إنتاج لها في المغرب. ومع ذلك فإن مباراة الفوز بجائزة صناعة السيارات في العالم العربي ما تزال بعيدة عن الحسم، حيث تقف المملكة العربية السعودية حاليا في الجانب المقابل للمغرب في مباراة المنافسة، وهي ترصد كل ما تستطيع من الإمكانيات للفوز بالجائزة. ولا يتوقف الطموح السعودي عند مجرد كسب المنافسة في العالم العربي، لأن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يطمح في أن تصبح السعودية واحدا من بين أكبر خمسة منتجين للسيارات الكهربائية في العالم. رصيد السعودية في هذه المباراة هو الموارد المالية الضخمة، والطموح والإرادة. أما رصيد المملكة المغربية فهو الخبرة والثقة والمهارات البشرية، التي تراكمت لديها عبر نحو 50 سنة من التجارب لإقامة وتثبيت هذه الصناعة، وإقامة علاقات تشابك قوية بينها وبين سلاسل الإنتاج الأوروبية والعالمية. هذا الرصيد الذي تمتلكه المملكة المغربية، لا يتوفر لأي دولة أخرى في العالم العربي حتى الآن، ويشكل المحرك الرئيسي لتعظيم القدرة على خلق القيمة المضافة في الإنتاج المحلي، وزيادة القدرة على المنافسة في الأسواق الخارجية. وإذا لم تنتبه المملكة السعودية لخطورة القصور الحالي الذي تعاني هي منه في توفير المهارات البشرية، والخبرات التكنولوجية والتنظيمية الصناعية، وضعف أو غياب القدرة على بناء سلسلة إمدادات محلية، فإنها ستقع في فخ استيراد كل شيء من الخارج لإنتاج سيارة كهربائية محلية، لن تكون لها قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية، بدون الحصول على دعم حكومي. ويجب أن تفصل السياسة الاستثمارية السعودية بين قدرتها على الاستحواذ في الخارج، وبين احتياجات بناء استثمارات مستدامة في الداخل.
نهاية عصر محركات الاحتراق الداخلي
ونظرا لأن صناعة السيارات العالمية تمر بمرحلة انتقال تاريخي، هو جزء من الانتقال العالمي في مصادر الطاقة، من عصر سيارات محركات الاحتراق الداخلي، إلى عصر السيارات الكهربائية أو التي تعمل بالهيدروجين، فإن هذا التحول يفتح للسعودية نافذة ثمينة للاستثمار في تكنولوجيا تطوير وإنتاج محركات السيارات الصديقة للبيئة. هذا الاستثمار يتطلب موارد مالية ضخمة، ومهارات بشرية عالية جدا، لكنها قليلة العدد. وإذا تمكنت السعودية من استخدام قدراتها المالية والبشرية في تدريب قاعدة قوية من المهارات في هذا المجال، بالتعاون مع الشركات العالمية، فإنها ستحقق اختراقا كبيرا في صناعة السيارات، يصعب على غيرها في العالم العربي أن يحققه، ويخلق أرضية ملائمة للتعاون مع شركات التكنولوجيا العالمية الرائدة في مشروع له طابع عالمي، ليس الغرض منه إنتاج سيارة وطنية للسوق المحلي، لكن يكون الغرض منه أن تصبح السعودية لاعبا رئيسيا في سوق إنتاج محركات السيارات على مستوى العالم. وحيث إن السعودية تتوفر بها مجموعة من الخامات الأساسية اللازمة لتصنيع محركات سيارات صديقة للبيئة، مثل الألومنيوم والحديد، فإنها تستطيع أن تقيم مصانع لإنتاج المحركات وبطاريات الليثيوم بإمكانات تكنولوجية عالية. كل ما تحتاجه هو أن تمد جسور التعاون مع الدول الأفريقية المنتجة لخامات الليثيوم وفوسفات الحديد، لتوفير أهم مواد صناعة البطاريات الكهربائية. وحتى في حالة عدم تحقيق ذلك، فإنها تظل قادرة على المنافسة في حال استيراد الليثيوم، مثل كثير من غيرها من مراكز صناعة السيارات في العالم ومنها ألمانيا. ومن العلامات المبشرة بالنسبة لسياسة الاستثمار السعودية في إقامة بنية أساسية صناعية لخدمة صناعة محركات السيارات الكهربائية، التعاون مع شركة «إي في ميتال» الأسترالية، لإقامة مصنع لإنتاج هيدروكسيد الليثيوم، وهو المادة الخام التي تستعمل في تصنيع خلايا بطاريات السيارات الكهربائية.
إن تحول صناعة السيارات إلى صناعة كثيفة التكنولوجيا، وتحول السيارات نفسها إلى منصة تكنولوجية – رقمية يترك آثارا واسعة النطاق على أساليب الحياة أيضا، من حيث إعادة بناء جانب الطلب، وذلك في مجالات منها تخطيط المدن ونظم المرور؛ فالسيارات ذاتية القيادة مثلا ستفرض على العالم إنشاء المدن الحديثة الذكية، وتغيير أنظمة المرور في المدن القديمة، بما يتلاءم مع احتياجات وسائل المرور الذكية التي تعمل بلا سائقين، ويتم توجيهها وإدارتها بواسطة مراكز رقمية وإشارات إلكترونية عن بعد. السيارة الكهربائية ذاتية القيادة المرتبطة بشبكة الاتصالات الرقمية ستغير حياة الإنسان، وتتبع في تطورها أنظمة الاتصالات العالمية، حيث سيترافق الانتقال من تكنولوجيا 4G إلى 5G ثم 6G مع ظهور جيل جديد من السيارات في كل مرة، بما يتوافق مع النظام الأكثر تطورا ويستفيد من مزاياه. وتقدم تجربة ربط السيارات بنظام «جي بي إس» صورة من صور التغيير القادم، نتيجة التوسع في استخدام التكنولوجيا. وطالما أن السعودية بدأت الدخول إلى عصر المدن الذكية، بمشروع «نيوم» فإن سوق السيارات الكهربائية الذكية ذاتية القيادة سيتسع، بما يخلق طلبا كبيرا على هذه السيارات.
هذا الاستعداد المطلوب يمكن أن يسير في اتجاهين: الأول هو إقامة قاعدة للإنتاج المحلي لغرض تحقيق الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض. والثاني هو إقامة صناعة ترتبط عضويا بسلاسل الإنتاج العالمية وتصبح جزءا منها، وتنتج أساسا للعالم. ولن يؤدي الاتجاه الأول إلا إلى إقامة صناعة محلية تعتمد على الدعم الحكومي، وتعجز عن المنافسة. أما الاتجاه الثاني فهو الذي يمكن أن يضع صناعة السيارات الكهربائية السعودية في مكانة ريادية على مستوى العالم. ويؤكد نجاح تجربة صناعة السيارات في المغرب أن الارتباط بسلاسل الإنتاج العالمية، وليس باحتياجات السوق المحلي هو أهم محركات النجاح، إذ أن طاقة إنتاج صناعة السيارات هناك تصل إلى 700 ألف سيارة سنويا، وهو ما يتجاوز كثيرا منطق الإنتاج للسوق المحلي وتصدير الفائض للخارج. كما أن استراتيجية مجموعة «ستيلانتس» لتصنيع السيارات الكهربائية في المغرب تستهدف إنتاج 200 ألف وحدة سنويا من سيارات «أوبل روكس-إي» بهدف التصدير إلى دول غرب أفريقيا، بما فيها سوق نيجيريا الضخم. كما أن استراتيجية مجموعة «رينو» تستهدف مضاعفة كمية إنتاج السيارات الكهربائية بهدف التصدير للأسواق الأوروبية، وليس بمنطق التصنيع للسوق المحلي وتصدير الفائض للخارج.
3 تحالفات للسيارات في السعودية
تعتمد استراتيجية صناعة السيارات الكهربائية في السعودية حاليا على ثلاثة تحالفات أساسية، يعمل كل منها وفقا لاستراتيجية مختلفة. التحالف الأول، هو تحالف إنتاج السيارة الوطنية السعودية «سير» وهو يضم صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وشركة فوكسكون التايوانية لأنظمة البطاريات الكهربائية والاتصالات، وهي شريك رئيسي لشركة آبل الامريكية في إنتاج أجهزة «آي فون». ويستعين هذا التحالف باتفاق ترخيص إنتاج من بي إم دبليو للأجزاء والمكونات الميكانيكية. أما التحالف الثاني فهو شركة «لوسيد» الأمريكية التي استحوذ صندوق الاستثمارات العامة على حصة 60 في المئة من رأسمالها بقيمة 2 مليار دولار، وتعاقدت معها السعودية على استيراد ما يتراوح بين 50 ألفا إلى 100 ألف سيارة على مدى 5 سنوات، تقوم فيها الشركة بإنشاء مصنع للسيارات الكهربائية، من المتوقع أن يبدأ الإنتاج عام 2025 وهو مصنع جاري العمل في إنشائه بالفعل في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية على البحر الأحمر. المدينة الاقتصادية تحتضن أيضا مصنع إنتاج سيارات «سير». التحالف الثالث لإنتاج السيارات الكهربائية من المرجح أنه يضم شركة «هيونداي» الكورية وشركة «إنوفيت الصينية» وذلك طبقا لمعلومات نشرتها صحيفة «فايننشال تايمز». وقد تم بالفعل توقيع مذكرة تفاهم بين الشركة ووزارة الصناعة والمعادن السعودية في هذا الخصوص. لكن هيونداي ستركز في المرحلة الأولى على مجرد تجميع مكونات السيارة الكهربائية فقط وليس تصنيعها في السعودية. وطبقا لبيانات صدرت عن وزيري الصناعة والاستثمار في السعودية، فإن طاقة إنتاج السيارات الكهربائية من المتوقع أن تصل إلى 500 ألف سيارة سنويا في عام 2030.
وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد أطلق مشروع إنتاج السيارة «سير» في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، لتكون أول علامة تجارية لصناعة السيارات السعودية، التي تعتبر ركنا رئيسيا من أركان استراتيجية تنويع الإنتاج في مرحلة ما بعد النفط، وبناء قاعدة صناعية راسخة في البلاد. وطبقا لما قاله بن سلمان فإن إطلاق شركة «سير» لا يهدف إلى بناء علامة تجارية للسيارات في المملكة فحسب؛ بل يدعم تمكين قطاعات استراتيجية متعددة تهدف لتطوير المنظومة الصناعية الوطنية، وتسهم في جذب الاستثمارات المحلية والدولية، الأمر الذي من شأنه استحداث العديد من فرص العمل للكفاءات المحلية، وتوفير فرص جديدة للقطاع الخاص، بما يسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي للمملكة خلال العقد المقبل، وذلك تحقيقاً لاستراتيجية صندوق الاستثمارات العامة في المساهمة بدفع عجلة النمو الاقتصادي تماشيا مع رؤية 2030. وتجدر الإشارة هنا إلى أن زيادة الطلب على السيارات الكهربائية في السعودية يحتاج إلى البدء في إقامة بنية أساسية للشحن السريع للبطاريات الكهربائية. ونظرا لأنها تسعى إلى إنتاج سيارات كهربائية تتمتع بالحد الأقصى من إمكانيات الرفاهية والسرعة، فإن إقامة شبكة للشحن الكهربائي السريع للبطاريات، والإنفاق على تطوير بطاريات تتيح مدى أطول وسرعة أكبر، يمثل ضرورة مهمة لضمان زيادة الطلب. وتعتبر المملكة المغربية حتى الآن هي الدولة العربية الوحيدة التي تستخدم شبكة «تسلا» للشحن السريع لبطاريات السيارات الكهربائية. إن نجاح استراتيجية صناعة السيارات الكهربائية، يحتاج للتركيز على الاستثمار في صناعة المحركات بالمشاركة مع شركات الطاقة، والاستثمار في قطاع الصناعات الهندسية بالتعاون مع شركات السيارات والطائرات، والاستثمار في شركات الكمبيوتر والرقائق الإلكترونية بالتعاون مع شركات الاتصالات والكمبيوتر؛ فالسيارة الكهربائية لم تعد مجرد آلة ميكانيكية، ولكنها تتحول مع الوقت إلى غرفة إلكترونية متحركة، تتوفر فيها جميع عوامل الرفاهية والأمان.