ليس صدفة أن ينقض شخص مثل أريك زمور على تصريحات الرئيس التونسي الأخيرة حول المهاجرين الافارقة غير النظاميين، فيغرد على حسابه على تويتر قائلا: «لقد بدأت البلدان المغاربية نفسها في دق ناقوس الخطر في مواجهة تصاعد الهجرة. تونس تريد اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية شعبها، فما الذي ننتظره لمحاربة الاستبدال العظيم».
بالنسبة للقيادي الفرنسي اليميني قد يكون الصدام بين المغاربيين وأفارقة جنوب الصحراء رديفا للحرب الأوروبية التي تشن اليوم وبشكل صامت على العرب والمسلمين من كل القارات، لكن هل هناك حقا مؤامرة ما تقاد ضد الدول المغاربية بوجه خاص تبدو وقودها، افريقيا في الظاهر، لكن محركها الحقيقي أوروبي؟
إن صيحات الغضب التي تعالت منذ شهور قليلة في بعض أحياء الدار البيضاء وقبلها بأعوام في مناطق في طرابلس، باتت تسمع الآن بقوة أكبر في شوارع صفاقس، فهناك في جنوب تونس صار البعض يردد ما قيل في السابق في ليبيا والمغرب من قبيل: «لقد مللنا وتعبنا ولم نعد نطيق وجودهم بيننا.. ولم يعد ممكناً السكوت أكثر على ما يرتكبونه من موبقات وأعمال شغب وقطع طرق وسطو وإجرام»، ولعل السفير التونسي في الكونغو لخص في حديث أدلى به مؤخرا إلى قناة تلفزيونية كونغولية بعضا من تلك الصيحات حين قال: «لدينا مشكلة مع عدد كبير من المهاجرين الذين يصلون إلى تونس وينشرون الرعب في البلاد، على سبيل المثال في مدينة ساحلية مثل صفاقس نجد أشخاصا يحملون المناجل وسط المدينة ويقومون بقتل واغتصاب الناس». لكن على فرض أنه سجلت بالفعل حالات تجاوز من بعض الأفراد، فهل يعني ذلك أنه ينبغي على التونسيين والليبيين والمغاربة والجزائريين أن يضعوا كل المهاجرين الافارقة، وبلا استثناء في سلة واحدة، هي سلة الإجرام والوصم بأنهم خطر على أمنهم وسلامتهم؟ ربما غاب عن بال البعض منهم وفي فورة انفعاله وغضبه أنه ينتسب بدوره، سواء أراد ذلك أم لا إلى القارة نفسها التي ينحدر منها من ينظر لهم كوافدين دخلاء غير مرحب بهم، كباقي الزوار القادمين من جهات أخرى. ولعله نسي أيضا أن المدن المغاربية لم تكن قبل انتشار ظاهرة الهجرة السرية، من الدول الافريقية جنوب الصحراء الكبرى نحو القارة الأوروبية بشكل واسع في السنوات الأخيرة، متجانسة عرقيا وديمغرافيا، بل كانت تضم وعلى العكس خليطا واسعا ومتنوعا من الأعراق والألوان. والشيء الثابت هو، أنه لم يُطرح أبدا وعلى امتداد العقود الأخيرة في الدول المغاربية ربما باستثناء موريتانيا، نظرا لمعطيات وظروف تخصها، أي مشكل في علاقة بالتركيبة السكانية لتلك الدول. وحتى المحاولات التي بذلها الاستعمار الفرنسي والإسباني في وقت ما لدق إسفين وتغذية النعرات والانقسامات بين العرب والأمازيغ مثلا، وهما المكونان السكانيان الأساسيان في المغرب، من خلال ما عرف بـ»الظهير البربري» في 1930 فإنها سرعان ما منيت بالفشل الذريع. كما أن بعض الاحتجاجات التي ظهرت في فترة ما في الجزائر في مناطق «القبائل» لم تكن موجهة ضد العرب، أو الهيمنة العربية كما جرى تصويرها، بل كان الهدف منها هو المطالبة بالمساواة في الحقوق. ومع أن هناك من عبّر عن صدمته مما قاله الرئيس التونسي الثلاثاء قبل الماضي من «أن هناك ترتيبا إجراميا تم إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، وأن هناك جهات تلقت أموالا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من افريقيا جنوب الصحراء في تونس… وأن هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها هو، اعتبار تونس دولة افريقية فقط، ولا انتماء لها للامتين العربية والإسلامية»، وفقا لما نقلته مصالح الرئاسة فإن ذلك لم يكن خارجا عن سياق عام، ولم يحدث بالتالي بمحض الصدفة. فقبل نحو أسبوع واحد من تلك التصريحات أثار مقطع فيديو نشره أحد الناشطين جدلا واسعا داخل تونس، وكان عنوانه هو «زحف الافارقة على مدينة صفاقس» وظهر فيه عشرات المهاجرين وهم يمشون على الأقدام في مدخل العاصمة الاقتصادية التونسية ليتساءل مصور ذلك الشريط في مداخلة مع إحدى الاذاعات المحلية، عن سر صمت الدولة محليا ومركزيا عما وصفه «بالعدد المهول والصادم من الافارقة جنوب الصحراء، الذين احتلوا المدن، خاصة مدينة صفاقس» على حد تعبيره، وليتحدث عما اعتبره «مشروعا استيطانيا» لهؤلاء في تونس قبل أن يتابع القول «ومن دون نزعة عنصرية فإن هؤلاء المهاجرين يدخلون بطريقة غير شرعية ومن دون هوية واضحة، ويجب على السلطات توضيح هذا الملف».
وبالطبع فإن الرئيس التونسي لم يتحرك لمجرد أنه شاهد ذلك الفيديو، أو استمع إلى نداءات من صوره، لكن هل كانت هناك مبالغة أو تضخيم في أعداد المهاجرين الافارقة أو تهويل في اعتبارهم غزاة جددا يريدون الاستيطان في تونس؟ لقد تحدث سعيد عن مخطط قديم في ذلك الاتجاه، وهناك بالطبع من سيصدق ذلك ومن لن يصدقه. لكن بغض النظر عن التفاصيل والحيثيات، فإنه لا يمكن لأحد أن يتغاضى الآن أو ينكر وجود مشكل فعلي لا في تونس وحدها، بل في كل المنطقة المغاربية، وأن بقاءه من دون حل لا يسبب سوى مزيد من التوتر وسوء الفهم المستحكم منذ فترة بين المغاربيين عموما، والافارقة جنوبي الصحراء بوجه خاص. فالطريقة التي يصل بها هؤلاء المهاجرون إلى الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، ثم المسار الذي يأخذونه في تلك الدول قبل أن تغامر أعداد منهم بالإبحار نحو الضفة الشمالية للمتوسط، تبعث بالفعل على الريبة، وتثير كثيرا من علامات الاستفهام. والحديث عن مافيات أو شبكات للاتجار بالبشر، كما فعل رئيس الوزراء الإسباني الصيف الماضي، قد لا يفسر سوى جزء فقط من حقيقة ما يجري. والسؤال هنا هو، هل هناك أبعاد سياسية إقليمية ودولية وراء الدفع بأفارقة جنوبي الصحراء في المنطقة المغاربية بالذات؟ أم أن هؤلاء يتحركون هناك فقط بدافع مطاردة حلم الهجرة إلى القارة العجوز؟
لعل ما حصل في يونيو الماضي حين حاول نحو ألفي مهاجر افريقي اقتحام سياج جيب مليلية المحتلة، ليسقط منهم وفقا للإحصائيات الرسمية ثلاثة وعشرون قتيلا في تلك المحاولة، التي وصفت بأنها الأضخم والأعنف من نوعها، ما يعزز قناعة البعض بأن هناك دوافع وغايات أخرى استخدمت فيها ورقة المهاجرين الافارقة فقط لتحقيق مكاسب سياسية. وفي الإجمال يبدو إبقاء الدول المغاربية كحاجز طبيعي بين افريقيا وأوروبا هدفا استراتيجيا لمن ينهبون القارة السمراء، لكن فصل تلك المنطقة عن باقي القارة أيضا قد يكون بدوره واحدا من الاهداف. وهكذا فان حديث زمور عن مؤامرة عربية وإسلامية داخل أوروبا، يتقاطع الان مع حديث البعض عن مؤامرة افريقية في دول المغرب. لكن إلى أين يمكن أن يقود ذلك؟ ومن سيكون المستفيد من تأجيج النعرات ومحاولات العزل والفصل؟ الجواب حتما عند من يحبكون المؤامرات.