“بين كل ضريحين يوجد ضريح في المغرب”… مقولة قد تحمل مبالغة أو تهويلاً، لكنها على أية حال تعبر عن وفرة أعداد الأضرحة في بلد يُعرف بكونه “بلد الأولياء”، إذ يتجاوز عددها في 7090 ضريحاً وزاوية، وفق آخر إحصاء لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، يعود إلى عام 2019.
يواصل المغرب العناية بالأضرحة والزوايا، من خلال تخصيص ميزانيات مالية كبيرة لها كل سنة، سواء من ميزانية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، أو عبر هبات من الملك محمد السادس، إذ تعدى الإنفاق عليها خلال السنة الماضية 146 مليون درهم مغربي (16 مليون دولار)، من أجل تجديدها وترميمها والمساعدة في أداء مهامها الدينية.
بالتوازي مع الأضرحة، تقام تجارة قائمة بذاتها، يقف وراءها في الظاهر أناس عاديون وتجار بسطاء، لكن في العمق يبقى أكبر المستفيدين منها بعض القائمين والمشرفين على تدبير شؤون تلك الأضرحة.
ولأنها باتت مثل “مصحات متخصصة” في علاج الأمراض النفسية والمشكلات الاجتماعية للزوار، فإن “شبكات التجارة” الرائجة في جنباتها، تتخذ بدورها ألواناً وأصنافاً، وتطور نفسها حسب “صنف الضريح” و”الخدمات الاجتماعية” التي يقدمها لزواره ورواده من مختلف الأعمار والفئات.
الأضرحة “مصحات متخصصة”
لكل ضريح في المغرب “تخصص علاجي”.. هكذا يبدو واقع عديد من الأضرحة المتناثرة في أرجاء المملكة، فمنها ما تحج إليها فتيات “فاتهن قطار الزواج”، وصرن يوصمن بالعانسات، فلا يجدن أمامهن سوى ضريح شهير مثل ضريح الولية “عائشة البحرية” قرب مدينة أزمور، ليتبركن به طلباً للزواج، إذ تؤدي الواحدة منهن طقوس التبرك وتكتب اسم “الزوج المنشود” على الحائط بالحناء، بينما الفتاة التي تعتقد أنها مصابة بالحسد، تستحم في مكان منفرد داخل الضريح، تاركة بعض ملابسها الداخلية في المكان، ظناً منها بأن ذلك سيخلصها من حظها العاثر.
وأما المرأة العاقر التي ترغب في الأولاد، فتقصد ضريح “بوشعيب الرداد” غير بعيد من الضريح آنف الذكر، للتبرك بقبر الولي التماساً للذرية بحسب اعتقادها، كما تحج إلى المكان ذاته المرأة التي تخشى فراق زوجها، أو تتمنى الحفاظ عليه ولا يتزوج غيرها.
وإضافة إلى أضرحة “طلب الزواج والتماس الذرية وطرد النحس والعين”، هناك أخرى تكاد تختص بعلاج الأمراض النفسية والعقلية، لعل أشهرها ضريح “سيدي عري” في ضواحي مدينة الناظور في ريف المغرب، وضريح “بويا عمر” ناحية مراكش، الذي أغلقته السلطات في 2015 بعد انكشاف حالات سجن وتعذيب مرضى نفسيين داخله، وغيرهما من الأضرحة.
إدارة الأرباح
ومع انتشار الأضرحة واختلاف رغبات زائريها، تنتشر التجارة حولها، على شكل باعة متجولين أو حوانيت بسيطة، تبيع عدداً من المستلزمات والحاجات المطلوبة في زيارة الولي.
للوهلة الأولى يبدو الأمر عادياً جداً، فالزوار، بخاصة النساء، يقصدن الضريح لتلبية طلباتهن المختلفة، بالتالي يتعين عليهن شراء إما قالب سكر أو لترات من الحليب أو قنينة ماء، أو قلادات أو تمائم تعرض للبيع في الضريح من طرف باعة، لكن مع التحري حول خلفيات تلك التجارة، يتبين أن هؤلاء الباعة والتجار الصغار والبسطاء لا يحصلون على عائدات البيع وحدهم، بل يقف وراءهم بعض القائمين على الضريح، ينالون حصة منها.
الحسين سراطي، بائع سابق كان يتعامل مع أحد الأضرحة، يقول لـ”اندبندنت عربية”، إن تجارة الأضرحة تتم بطريقتين، الأولى، الاتفاق بين مشرفي الضريح والبائع على نسبة معينة من أرباح التجارة، فمثلاً يحصل البائع على نسبة 40 أو 30 في المئة، والقائمون على الضريح 60 أو 70 في المئة، وهكذا. والطريقة الثانية، وفق سراطي، أن يُفرض على البائع مبلغ مالي معين يؤديه لهم في اليوم أو الأسبوع أو حتى الشهر، مقابل السماح له بالتواجد في جنبات الضريح، وإلا استبعدوه.
تجارة رائجة
وكمثال تقريبي لمعرفة حجم التجارة التي قد تبدو بسيطة وصغيرة لكنها تدر الملايين على أصحابها، يقول منير زرغومي، باحث سوسيولوجي صاحب أطروحة دكتوراه حول الأضرحة والأولياء في المغرب، إنه إذا كان سعر قالب السكر أو باقي المستلزمات 20 درهماً مغربياً (نحو دولارين)، وكان عدد الزوار في اليوم 100 شخص فقط، فالحاصل يناهز 2000 درهم كل يوم (200 دولار)، أي 60 ألف درهم في الشهر (6 آلاف دولار)، على أقل تقدير، وبعد خصم رأس المال وحصة البائع، فإن بقية الأموال يحصل عليها القائمون على الضريح.
ويضيف الباحث أن هناك طريقة أخرى تدر على مدبري شؤون الضريح مبالغ مالية محترمة، وهي أن قالب السكر مثلاً أو القلادة أو علبة الحناء التي يأتي بها الزائر مباشرة إلى الضريح للتبرك وطلب الحاجة، يعاد بيعها من جديد من طرف مسيري الضريح، فتذهب الأرباح كاملة إليهم.
هذه المعطيات يرفضها جملة وتفصيلاً محمد سلام، مسؤول أحد الأضرحة، ويقول لـ”اندبندنت عربية”، إن المسؤولين لا يأخذون من عائدات التجارة المحيطة بالضريح، ولا يتاجرون بما يأتي به الزوار من أشياء ومستلزمات للزيارة، مؤكداً أن الضريح مؤسسة اجتماعية وروحية ودينية لا يمكنها الانخراط في أية تجارة، وأن لا سلطة للضريح على الباعة، والتجار لا سلطة للضريح عليهم، مختتماً “تكفينا عناية الدولة مادياً ومعنوياً”.
وأنفقت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على الأضرحة والزوايا في المغرب ما يقارب 146 مليون درهم (نحو 14مليون دولار ونصف المليون) للتمويل والترميم ودفع الأجور، في إحصاء رسمي يعود إلى سنة 2018، ولم تُحدّث تلك المعطيات من أية جهة رسمية بعد ذلك.
واعتادت الدولة منذ عقود، أن ترسل هبات مالية إلى أشهر الأضرحة والزوايا الصوفية كل سنة، من أجل مساعدتها على تدبير شؤونها، والاعتناء بأحوالها، بخاصة تلك التي يؤمها الآلاف.
اقتصاد ديني غير مهيكل
الدكتور إدريس الكنبوري، باحث في الشأن الديني، يعلق على الأمر قائلاً، إن هذه التجارة “نوع من الاقتصاد الديني غير المهيكل الذي يعيش منه في الغالب الساكنون بجوار الأضرحة، والقريبون منها”.
وجواباً عن سؤال: لماذا لا تتدخل وزارة الأوقاف لوقف أو تقنين هذه التجارة، يرى الكنبوري أن مثل هذا الاقتصاد يوفر عائداً مالياً لكثير من الأسر التي ليس لها دخل ثابت، لذلك لا تستطيع السلطة الوصية على الأضرحة محاربتها، لأنها جزء أساسي من ثقافة زيارات هذه الأماكن، مستدركاً “تلك التجارة مرتبطة أساساً بطقوس الزيارة مثل بيع الشموع والقلادات والماء وبعض الأشياء التي يطلبها المشعوذون الذين يعيشون حول تلك الأضرحة، وهو اقتصاد قائم بذاته، يريح الدولة وفي الوقت نفسه يدخل في إطار تكريس نوع من التدين الشعبي لتحقيق توازن مع التدين السياسي”.