لو أن فرنسا أو ألمانيا أو أي دولة أوروبية أخرى تشاورت مع البعثة الفلسطينية لدى الأمم المتحدة، وأعدت مشروع قرار في مجلس الأمن، يأخذ بالمطالب الفلسطينية، ويتشاور مع باقي الدول الأعضاء في المجلس على أساسها، وينجح في استصدار بيان رئاسي يؤكد الحقوق الفلسطينية ويرفض أعمال توسيع المستوطنات، ويدين أعمال العنف ضد الفلسطينيين، فكيف سيُنظر إلى هذا الدور؟
سوف يُنظر إليه على أنه انتصار ساطع للقضية الفلسطينية، ودفاع نبيل عن الحقوق الوطنية المشروعة، ولسوف يُحتفى به كما لم يُحتف بأي دور آخر.
الإمارات هي التي فعلت ذلك. ولم تطلب احتفاءً من أحد. لم تكن بحاجة أصلا إلى تثمين، أو شكر من أي نوع. لأن المرء لا يُشكر على ما يؤمن به. الإمارات تؤمن بما تفعل، وبس. والقضية الفلسطينية بالنسبة إليها، هي قضية حقوق وطنية وقيم إنسانية ومعايير تضامن قومي، ما من سبيل للمساس بها. ولو حدث أن شكرها أحد على ذلك لردت الشكر على أعقابه.
لا تتعامل الإمارات مع القضية الفلسطينية بدوافع شعاراتية. هذه الدوافع لم تصل إليها حتى عندما كان موجها هو الأعلى. الأساس هو أنها قضية حقوق مقدسة، وترعاها عهود ومواثيق دولية وقرارات من أعلى مؤسسة تشريع في العالم، هي مجلس الأمن. وسواء فشلت الجهود لإجبار إسرائيل على الأخذ بها، أو إقناعها، أو الالتزام بما تفرضه، فإن ذلك لا يغير شيئا في واقع أن الأساس يبقى صلبا ويجدر الدفاع عنه.
وهناك “تطبيع” أيضا. ولقد توفرت الفرصة الآن، ليتضح أنه، بالإضافة إلى كل شيء آخر، أداة من أدوات الكبح. بل أنه قيد يلزم إسرائيل، بل يلزم حتى أكثر المتطرّفين فيها تطرفا، على أن يلتزم حدوده، فلا يتعداها. ومن ثم ليعرف أنه إذا أراد أن يتعايش بسلام مع شعوب المنطقة، فإن كبح الأعمال العدوانية والتزام الحدود هو واحد من الأسس التي لا يمكن التعدي عليها من دون التعدي على فرص التعايش نفسه.
السلام لا يُقابل بأعمال العدوان، ولا التوسع الاستيطاني ولا انتهاكات الحقوق. هذا ما يتعين على “التعايش” أن يفهمه لكي يتحول إلى تعايش فعلا
و”التعايش” حاجة وجودية بالنسبة إلى إسرائيل. نحن لسنا بحاجة إليه، لأن وجود شعوب المنطقة ليس موضع سجال. ولكننا نقدمه كثمرة من ثمرات الروابط الإنسانية التي تتسع للقيم النبيلة عندما تُقابل بمثلها.
لقد عاش اليهود بين ظهراني شعوب المنطقة لقرون مديدة. وعندما نقول إنه لا مشكلة لنا مع اليهود، كطائفة دينية، فلأنه لا مشكلة فعلا. لا يوجد زيف في هذا الأمر. ولكن لدينا مشكلة مع التطرف؛ مع العدوانية، مع نزعة السطو على حقوق الآخرين، ومع تجاهل القواعد والمقررات الدولية التي سعت إلى إيجاد تسوية سلمية للنزاع. وبالتالي مع كل الانتهاكات التي تترافق مع هذا التجاهل، ومع الغطرسة في استخدام القوة.
تُمسك الإمارات بالعصب الأخلاقي والقانوني لهذه المحاجّة. تريد سلاما؟ أهلا وسهلا. تريد أن تواصل أعمال العدوان والانتهاكات؟ فلا. ولسوف تجدنا نستعين بكل الوسائل الأخلاقية والقانونية التي تكفل ردعك.
البيان الرئاسي الذي صدر عن مجلس الأمن قال كل ما قال وبأفضل ما يمكن للسلطة الفلسطينية أن تأمل، بفضل الدور الذي لعبته بعثة الإمارات في التفاوض مع الأطراف الدولية الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة، فصدر بالإجماع. وألزم إسرائيل على أن تتخلى عن خططها حتى بعد أن تحولت إلى “قانون” أقره الكنيست. وهو لم يكن مجرد بيان. إذ تجمعت من حوله مواقف دولية صارمة، تدين السعي الإسرائيلي من أجل التوسع على حساب الأراضي الفلسطينية، ويهدد فرص حل الدولتين.
قيدٌ، يدرك المتطرّفون في إسرائيل أنهم تكبلوا به. ينظرون إلى الإمارات بعين الحاجة إليها. كما ينظرون إلى القيد بعين القبول بما تقتضيه الضرورات لتبرير القدرة على التعايش.
السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد وصفت بيان مجلس الأمن بأنه “مهارة دبلوماسية حقيقية” تظهر مدى جدية المجلس “في التعامل مع هذه التهديدات التي تواجه السلام”.
تُمسك الإمارات بالعصب الأخلاقي والقانوني لهذه المحاجّة. تريد سلاما؟ أهلا وسهلا. تريد أن تواصل أعمال العدوان والانتهاكات؟ فلا
و”المهارة” إنما كانت مهارة السفيرة الإماراتية لانا نسيبة. صاغت هذه الدبلوماسية الرفيعة ردها بلغة جمعت بين الحزم والمرونة بما كان يكفي لتقول لزملائها الآخرين إن “من المهم أن يظل المجلس موحّداً وحازماً في التأكيد على أن استمرار الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية يقوّض حل الدولتين على نحو خطير. وإنه بعد مرور عام أدت فيه الاستفزازات والتوترات والعنف المتصاعد إلى مزيد من التآكل في آفاق حل الدولتين كان من الضروري للغاية أن يعيد هذا المجلس التأكيد على التزامه الراسخ برؤية فلسطين المستقلة تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في سلام”.
إنه تطبيع، ولكن أين منه أشكال الصراع الأخرى.
أفهل لديك مقاربة أخرى؟ لا بأس. تفضل. لا توجد مشكلة.
ولكن الإمارات التي لا تحب الشعارات، لا تحب اللغة المتطرفة أيضا. شيء في الثقافة العامة يقول: ابق هادئا، لتتصرف بعقل، وتستخدم أدواتك بحكمة.
مخاطبة العقل والحكمة، تستولد العقل والحكمة. هذا هو الأمل. إما التطرف فهو يكتب نهايته بيديه، عندما يتناطح مع صخرة الواقع.
الشيء نفسه، يفعله المغرب. لا يوجد واحد في إسرائيل يستطيع أن يرفع عينا على حاجب حيال الموقف المغربي من “المسألة اليهودية”. إنه موقف إنساني تحول إلى علامة من علامات التاريخ الفارقة. حتى ليجوز الاعتقاد بأن ولاء اليهود المغاربة لملكهم أرقى بكثير من ولائهم لإسرائيل. وهم يعرفون أن العاهل المغربي الملك محمد السادس راع أول من أصحاب الرعاية على القدس الشريف ويحترمون مسؤولياته. إنه رئيس لجنة القدس بوصية ثابتة من منظمة المؤتمر الإسلامي. تكلّف بعهدتها الملك الراحل الحسن الثاني في العام 1975، وورث المسؤولية فيها الملك محمد السادس.
ناصر بوريطة أبلغ الحكومة الإسرائيلية رفض المملكة لقرارها بتكثيف الاستيطان وشرعنة البؤر الاستيطانية، وكل الإجراءات الأحادية التي تقوض فرص السلام
الرسائل التي تصل إلى إسرائيل الآن، تقول إن اجتماع القمة الإسرائيلية – العربية “النقب 2”، الذي كان مقررا أن تحتضنه الصحراء المغربية في الشهر المقبل، يمكن أن يلغى. لكي تفهم إسرائيل، ويفهم المتطرّفون، أن السلام يجب أن يُقابل بالسلام.
التطبيعُ قيدٌ هنا أيضا. ولا شيء مجانيا إذا ما شاءت إسرائيل أن تحصد ثمار علاقات مع أي دولة عربية أخرى.
السلام لا يُقابل بأعمال العدوان، ولا التوسع الاستيطاني ولا انتهاكات الحقوق. هذا ما يتعين على “التعايش” أن يفهمه لكي يتحول إلى تعايش فعلا.
ناصر بوريطة وزير الشؤون الخارجية المغربي أبلغ الحكومة الإسرائيلية رفض المملكة لقرارها بتكثيف الاستيطان وشرعنة البؤر الاستيطانية، وكل الإجراءات الأحادية التي تقوض فرص السلام.
ولن يجرؤ إسرائيلي واحد على ألا يفهم الرسالة. قد يتغافل عنها. ولكنه يفهمها. وهي أن المقاربة العربية للتطبيع، هي مقاربة رغبة حقيقية بالتعايش، لا مجرد مناورة لكسب اعتراف بالحق في الوجود من دون التزامات، أو من دون سلوك سياسي يرقى إلى مستوى رقي المقاربة العربية للسلام. ولا شيء مجانيا. هذه علاقة ليست طريقا من ممر واحد.