وضعت أزمة الناشطة السياسية المعارضة أميرة بوراوي، العلاقات الجزائرية – الفرنسية أمام اختبار حقيقي، ترجم مدى الهشاشة التي تطبعها، رغم ما يظهر أنه تقارب بين البلدين، وتحول في ترتيب الأولويات، حيث ساد الاعتقاد خلال الأشهر الماضية، بأن الخلافات التقليدية صارت من الماضي.
وإذ عبرت بوراوي عن استغرابها بالتساؤل، كيف لمتر ونصف -في إشارة إلى قامتها القصيرة- أن تحدث كل هذه الضجة، لأنها لم تكن تدري أن سفرتها من الجزائر إلى تونس ثم إلى فرنسا، ستحدث كل ذلك اللغط، فإن كثيرين في الجزائر لم يهضموا التصعيد الجزائري تجاه الحادثة، وإعطائها أكثر مما تستحق من أهمية، على اعتبار أن المعنية ليست ذلك الوجه البارز أو المؤثر، سواء في المعارضة أو الحراك الشعبي.
وحمل رد الفعل الجزائري طابعا مفاجئا، حيث تم استدعاء السفير على عجل من باريس من أجل التشاور، وأطلق العنان للأذرع السياسية والإعلامية، من أجل النفخ في رماد الأزمة، كما جاءت البيانات الرسمية أكثر حدة وقوة، الأمر الذي اعتبر البعض أنه مبالغ فيه، مقارنة بتعاطي باريس مع الحادثة.
◙ يبدو أن باريس والجزائر في حاجة ماسة إلى خط مماثل، يكفل لكبار القادة والعقلاء احتواء الألغام المتفجرة
الحادثة كرست هواجس الشكوك واهتزاز الثقة بين الطرفين، فوضعت جميع المصالح المشتركة وجهود التقارب في كفة، والناشطة السياسية المعارضة في كفة ثانية، وهو مكيال يتنافى مع منطق العلاقات الدولية والإستراتيجية، وإذا كان الطرفان قد توصلا في وقت سابق إلى تحييد ملف التاريخ والذاكرة المشتركة، لكي لا يؤثر على الملفات الأخرى، فإن تأثير حادثة بوراوي المفاجئ على تلك العلاقات يبقى أمرا غير طبيعي تماما.
هناك أطراف في الجزائر كما في فرنسا، تهلل لكل تصعيد أو أزمة دبلوماسية بين البلدين، فكما يتاجر هنا البعض بالتاريخ والأيديولوجيا، هناك أيضا من يريد للنظرة والمعاملة العلوية أن تحكم الطرفين، وكلاهما يتجاهل القواسم الإستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشتركة.
في الجزائر يقول المأثور الشعبي “لا ترمي شظايا الزجاج على الطريق الذي تعبره، لأنك قد تعود عبره ثانية”، وهو ما ينطبق تماما على ارتدادات الحادثة على علاقات الطرفين. فالجزائر التي اتخذت مواقف متسرعة، قد يكون من الصعب عليها التطبيع بسهولة. فإلى حد الآن يجهل مآل استدعاء السفير للتشاور، بينما حاولت باريس تحييد التصعيد الجزائري.
البيانات الرسمية وجهت أصابع الاتهام للأمن الخارجي ولموظفين في الخارجية ومستشارين مزدوجي الجنسية، وهو ما يعتبر جهرا بتفاصيل المنظومة والنخب السياسية الحاكمة في فرنسا، كان يمكن التعامل معها بآلياتها وأسلوبها المناسبين، لأنها في النهاية هي جزء من تلك المنظومة، ولا يمكن لماكرون التخلص منها بسهولة من أجل الجزائر.
ولعل حديث نخب فرنسية، عن إفراط باريس في توظيف أحقيتها في حماية مواطنيها على حساب مصالحها مع الجزائر، وعدم التعامل البراغماتي الذي يراعي المصالح وحقوق الإنسان معا في الحادثة، فقد كان بحسب هؤلاء، استضافة بوراوي في سفارتهم بتونس، والتشاور مع المسؤولين الجزائريين حول حل ودي يحمي المواطنة ويراعي المصالح في آن واحد، يوحي إلى أن التشنج الجزائري لم يأت من فراغ، ولو أنه لم يوفق في الشكل والمضمون.
فرنسا بالنسبة للجزائر هي نافذتها إلى أوروبا، وحليفها في ظل التوترات الإقليمية والدولية القائمة، والجزائر بالنسبة لفرنسا هي نافذتها إلى أمجادها التاريخية في القارة الأفريقية، وهي حليفها في المنطقة أيضا، وهذا كله أثقل بكثير مما تزنه مواطنة مزدوجة الجنسية مطلوبة هنا ومحمية هناك، ومن كل الألغام المزروعة.
الأزمة المستجدة بين الطرفين، تعكس تنافر توجهات وخيارات دوائر القرار في البلدين. فكما هناك بباريس من يتحفظ على التقارب المسجل بينهما خلال الأشهر الأخيرة، هناك أيضا في الجزائر من يحمل نفس الموقف، ويرى في الوجهة الروسية ملاذا وتحالفا إستراتيجيا يقوم على الاحترام والندية، وليس بعيدا أن تكون تلك الأطراف هي التي تسعى لنسف الجهود التي بذلها الرئيسان عبدالمجيد تبون وإيمانويل ماكرون، ولو أن طبيعة المنظومات الحاكمة مختلفة ولا تحكمها نفس الآليات.
خلال شهر أغسطس الماضي عقدت المصالح الأمنية العليا اجتماعا غير مسبوق بين رؤسائها، على هامش زيارة ماكرون للجزائر خلال نفس الشهر، وقبل أسبوعين كان قائد أركان الجيش الجزائري بباريس في زيارة دامت أربعة أيام، وبين الحدثين زارت رئيسة الوزراء الفرنسية ومعها 12 وزيرا العاصمة الجزائرية، فكيف يمكن تجاهل كل ذلك من أجل عيون الناشطة السياسية المعارضة.
في سرديات التاريخ تتحدث الروايات عن خطوط اتصال ربطت بين عواصم الحرب الباردة من أجل الحفاظ على التواصل في الأزمات والتوترات الكبرى، ويبدو أن باريس والجزائر في حاجة ماسة إلى خط مماثل، يكفل لكبار القادة والعقلاء احتواء الألغام المتفجرة، فما يجمع البلدين في الحاضر والمستقبل أكبر من استفزازات هنا أو هناك.