استهداف الجزائر لمواطنين تونسيين على الحدود والتضييق عليهم وإهانتهم من أجل تسجيل موقف سياسي كان يمكن حله بشكل دبلوماسي أثار غضبا في تونس من دولة يفترض أنها “شقيقة كبرى” سبق أن تعهدت بدعم تونس للخروج من أزمتها.
مع كل اختلاف في الموقف السياسي بين تونس والجزائر تلجأ السلطات الجزائرية إلى معاقبة مجموعة من التونسيين على الحدود. تتعمد إهانتهم بمصادرة ما اشتروه من الجزائر من مواد غذائية وملابس لإشعارهم بأنها صاحبة فضل عليهم وعلى بلادهم، وفي ذلك رسالة إلى رئيس بلادهم وحكومتهم وأحزابهم ومثقفيهم وكتابهم، الذين يتحدثون صباح مساء بفخر واعتزاز عن “الشقيقة الكبرى” التي تقف إلى جانبهم والتي لن تتركهم يكابدون الأزمات لوحدهم.
وأسلوب إذلال التونسيين على الحدود لجأت إليه الجزائر بعد الثورة حين شعرت أن تونس لم تعد قوية ولا تقدر على ردة الفعل، وأنها تتحمل التفاصيل الصغيرة من أجل الحصول على الدعم الذي تعد به الجزائر في كل مرة لمساعدة الجارة الشرقية على تجاوز محنتها.
لا يشعر التونسيون رسميا وشعبيا بأي عداء تجاه الجزائريين، وموقفهم هو نفسه مع بقية شعوب المنطقة، وهم يرحبون بهم بينهم بقطع النظر عن مواقف القادة والحملات الإعلامية
لكن سياسة الاستعداء على الصغيرة والكبيرة التي تلجأ إليها السلطات الجزائرية ستوسع الهوة بين الجزائر وتونس على المدى البعيد. صحيح أن الدولة التونسية يمكن أن تتحمل لبعض الوقت، لكنها لن تتحمّل طويلا.
وقبل فورة النفط والغاز الجديدة، كانت تونس تستقبل سنويا أكثر من مليوني جزائري كسياج من الدرجة الثانية. كانوا يشترون المواد المدعومة حكوميا في تونس، ولم يحتجّ أحد على هذه المزاحمة التي ساهمت في بعض الأحيان في ارتفاع الأسعار وندرة المواد الأساسية.
وقبل عقدين من الآن تحملت تونس أعباء العشرية السوداء التي عاشتها الجزائر من خلال حرب أهلية داخلية، ووجدت الآن ضالتها في تونس، حيث تراجع اهتمام النظام الجزائري بحاجيات البلاد الأساسية وصب تركيزه على الأزمة الداخلية. وساعدت تونس بما تملك بما في ذلك التنسيق الأمني لمحاصرة المتطرفين والإرهابيين، وعانت لسنوات بعد ذلك من مخلفات تلك الحرب الأهلية من خلال تسلل مسلحين إرهابيين لتنفيذ عمليات ضد الأمن والجيش في تونس وتجنيد إرهابيين محليين.
ولا يشعر التونسيون رسميا وشعبيا بأي عداء تجاه الجزائريين، وموقفهم هو نفسه مع بقية شعوب المنطقة، وهم يرحبون بهم بينهم بقطع النظر عن مواقف القادة والحملات الإعلامية. ويعرفون أن وجود الجزائريين، كما الليبيين، يحرك عجلة الاقتصاد بأنواعه، وفي المدن والمحافظات الحدودية، وعلى السواحل، ويدعم القطاع الصحي ويعطي قبلة الحياة للمصحات.
وما يؤاخذه التونسيون على الجزائر أنها تنظر دائما إلى مصالحها، ولو كان الأمر يتعلق بتفصيل هامشي، وأنه بدلا من حل أيّ خلاف صغر أو كبر من خلال القنوات الدبلوماسية تهرب دائما إلى التصعيد مثلما جرى مع حالة الناشطة المعارضة أميرة بوراوي التي تمتلك جنسية فرنسية وأرادت السفر إلى فرنسا فيما كانت الجزائر تريد استعادتها وتقول إنها هربت من البلاد بطرق غير قانونية وإن على تونس إعادتها.
وجدت تونس نفسها في وضع معقد في موضوع بوراوي، ولم تكن تريد أن تكون طرفا في هذا الصراع بالانحياز للجزائر أو فرنسا، وتركت الأمر للناشطة المعارضة أن تغادر تونس بملء إرادتها بدل إجبارها على الذهاب إلى الجزائر، وهي تعرف أن بوراوي ورقة صغيرة يراد من خلال تسجيل مواقف وبعث رسائل بين الفرنسيين والجزائريين في مسار خلاف بينهما لا مصلحة لتونس في التدخل فيه.
ورغم أن الجزائر اكتفت باستدعاء سفيرها من فرنسا، ولم تشر إلى تونس من قريب أو بعيد في خطابها الرسمي، إلا أن السلطة الجزائرية لجأت إلى الاحتجاج عبر التضييق على مواطنين تونسيين بعيدين عن السياسة ومشاكلها وتعقيداتها.
كان يمكن باتصال مباشر بين وزيري الخارجية في البلدين أن يحل هذا الخلاف بسهولة، وأن تستمع الجزائر إلى رؤية تونس لما جرى بدلا من الهرولة إلى الحدود ومعاقبة مواطنين تونسيين دخلوا الجزائر بشكل قانوني وبتشجيع منها، حيث دأبت على السماح لسكان المناطق الحدودية التونسية بشراء ما يلزمهم من مؤن وحاجيات ضمن إستراتيجية تقوم على تأمين حدودها بشراء ودّ المناطق القريبة من الحدود حتى لا تتحول إلى مكان لإيواء مسلحين مناوئين للنظام الجزائري.
وبعد أن أخذت قصة الإهانة التي تعرض لها التونسيون على الحدود صدى كبيرا في تونس، وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالهجوم على الخطوة الجزائرية التي وصفها نشطاء بالمهينة والتي تحدث شرخا كبيرا بين الشعبين، ظهر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون ليقول إنه أمر بعدم إزعاج وعرقلة “الأشقاء” التونسيين الراغبين في الدخول والخروج من الجزائر وإليها في مراكز العبور.
ونقل عدد من التونسيين، الذين استهدفهم القرار الجزائري بإفراغ حمولات سياراتهم دون أيّ مبرر، أن عناصر من الجمارك الجزائرية أكدوا لهم أن الأمر ليس بأيديهم، وأن القرار جاء بتعليمات عليا، في إشارة إلى أنه قرار سياسي من أعلى السلطة الجزائرية، وهو ما يفسر تدخل الرئيس تبون شخصيا بعد أن بان أن القضية سياسية، وأنها يمكن أن تأخذ أبعادا تصعيدية غير متوقعة مع تونس.
وجاءت خطوة تبون التفسيرية متأخرة، ولا تقدر على إصلاح ما كسرته الرعونة التي حكى عنها العشرات ممن نقلت أصواتهم وتصريحاتهم وسائل إعلام تونسية، حتى أن أحدهم تحدث بمرارة عن أن “الأشقاء” الجزائريين نزعوا معطفا يلبسه وكان قد اشتراه من الجزائر، أخذوا منهم كل شيء، وتركوهم لساعات طويلة في الانتظار في طقس بارد، من دون أيّ ذنب ارتكبوه.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها التونسيون لإهانة الجارة الغربية، فقد قامت السلطات الجزائرية في يناير الماضي بتوقيف تونسيين بزعم أنهم سعوا إلى تهريب كميات كبيرة من المواد سواء عبر سياراتهم الخاصة أو عبر حافلات سياحية، وحكمت على البعض منهم بمدد تصل إلى 10 سنوات سجنا.
ولا يمكن تفسير هذا الاستهداف المتكرر سوى أنه يتماشى مع مزاج السلطة الجزائرية التي تهدم علاقاتها الإقليمية بهذا الأسلوب المتعالي مع جيرانها وشركائها الأوروبيين.
وإذا كان الخلاف مع المغرب يمكن أن يفهم بسبب موضوع الصحراء، فإن التوتر مع تونس لا يمكن أن يفهم سياسيا وشعبيا، خاصة أنه يأتي في ظل التقارب مع قيس سعيد وهو ما يعكسه تبادل الزيارات والتصريحات الثنائية التي تشيد بالعلاقات الإستراتيجية بينهما، ووسط وعود دعم جزائرية كبيرة لمساعدة تونس على الخروج من أزمتها.
وهو ما يدفع إلى التساؤل: ما معنى أن تستثمر بعلاقات لسنوات ثم تخرّبها بإجراء تافه لا يقدم أو يؤخر كما حصل يوم الجمعة مع عائلات تونسية على الحدود.
ومن المهم الإشارة إلى أن الجزائر سعت لاستقطاب الطبقة السياسية التي حكمت تونس بعد ثورة 2011، وهي طبقة ضعيفة ومرتبكة تراءى لها أن الاستنجاد بالجزائري سيسمح لها بالبقاء في السلطة على مدى بعيد، وتسابقت الأحزاب وجمهورها ونشطاؤها على مواقع التواصل الاجتماعي في مديح الجزائر، واستجداء الدعم والحماية جعل المسؤولين الجزائريين، وبينهم الرئيس تبون، يطلقون تصريحات توحي بالوصاية، وأن تونس صارت من حلف الجزائر بالرغم من أن قيس سعيد سعى منذ إجراءات 25 يوليو 2021 إلى إبعاد تونس عن الصراعات الخارجية وتجنيبها سياسة الأحلاف التي اتبعتها حكومات سابقة بعد الثورة.