تتدحرج العلاقات بين فرنسا والجزائر نحو المزيد من التدهور على خلفية قضية إجلاء الناشطة المعارضة أميرة بوراوي إلى باريس قبيل ترحيلها من تونس إلى الجزائر، وتشير ردود الفعل الجزائرية الغاضبة إلى تصدع العلاقات الثنائية بعد انفراجة خلال الفترة الماضية.
يبدو أنه كلما انتقلت العلاقات الجزائرية – الفرنسية إلى خانة جديدة عادت إلى “المربع صفر”، وكلما تقدمت خطوة واحدة إلى الأمام تراجعت عشرات الخطوات إلى الخلف. فبعد تحركات رسمية كانت توحي بأن البلدين قد تجاوزا مرحلة التوتر ويتجهان نحو إقامة علاقات “ودية وهادئة”، نشبت الخلافات مجددا منذرة بعودة العلاقات إلى حالها الأول.
واتهم تقرير نشر في وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، مساء الخميس، المخابرات الفرنسية بالسعي لإحداث القطيعة في العلاقات الجزائرية – الفرنسية، محذرا باريس من التفكير في تكرار سيناريو خليج الخنازير.
وجاءت هذه الاتهامات والتحذيرات في سياق تفاعلات قضية الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي، التي تم إجلاؤها إلى فرنسا الأسبوع الجاري، بعد أن كانت مهددة بالترحيل من تونس إلى الجزائر حيث تنتظرها عقوبة بالسجن مدة عامين.
وقد أثار التدخل الفرنسي لإجلاء بوراوي، التي تعتبر أيضا مواطنة فرنسية بحكم امتلاكها للجنسية الفرنسية، غضب السلطة الجزائرية التي سارعت إلى استدعاء سفيرها لدى باريس سعيد موسي “فورا، للتشاور”، معتبرة أن ما قامت به السلطات الفرنسية “غير قانوني” وتجاوز خطير.
وقال تقرير وكالة الأنباء الجزائرية “لم تعد المصالح الفرنسية تخفي مناوراتها، بل أضحت تعلنها أمام الملأ وفي وضح النهار وها هي اليوم على وشك بلوغ هدفها المتمثل في إحداث القطيعة في العلاقات الجزائرية – الفرنسية”.
تقرير لوكالة الأنباء الجزائرية يقول إنه لمن المؤسف رؤية كل ما تم بناؤه ينهار وإن حدوث القطيعة لم يعد بعيدا
وأضاف التقرير “امرأة، ليست صحافية ولا مناضلة ولا تحمل أي صفة… يتم إجلاؤها إلى فرنسا، وفي ظرف 48 ساعة يتم استقبالها وتمكينها من التحدث في بلاتوهات قنوات تلفزيونية عمومية وذلك دليل على أن المخابرات الفرنسية أعلنت التعبئة العامة لخبارجيتها (عملائها) وبات هدفها واضحا”.
وتابع التقرير “ليعلم هؤلاء أنه إذا فكرت فرنسا في تكرار سنة 2023، سيناريو ‘خليج الخنازير’ فإنهم قد أخطأوا في العنوان”.
واسترسل التقرير “الجميع يعلم أنه توجد على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي، خطة تقضي بتقويض العلاقات الجزائرية – الفرنسية، يتم تنفيذها من قبل عملاء سريين و’خبارجية’ وبعض المسؤولين على مستوى المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي ووزارة الخارجية الفرنسية، وكذا بعض المستشارين الفرنسيين من أصل جزائري لا يخفون ولعهم وتبجيلهم للمخزن (النظام المغربي)”.
وقال التقرير “إنه لمن المؤسف رؤية كل ما تم بناؤه بين الرئيسين تبون وماكرون لفتح صفحة جديدة بين البلدين، ينهار وحدوث القطيعة لم يعد بعيدا على ما يبدو”.
ويرى مراقبون أن الأزمة المستجدة بين باريس والجزائر بسبب الناشطة المعارضة تعكس هشاشة العلاقة بين الطرفين، على الرغم من محاولات الجانبين خلال الفترة الماضية وتحديدا منذ زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الجزائر في أغسطس الماضي، التسويق لطي صفحة الماضي، والذهاب نحو بناء شراكة إستراتيجية متميزة.
ويلفت المراقبون إلى أن تحذير التقرير من تكرار “سيناريو خليج الخنازير” يظهر وجود أزمة ثقة مزمنة بين الطرفين، وسبق أن اتهمت دوائر جزائرية باريس بالتورط في الحراك الاحتجاجي الذي شهدته الجزائر في عام 2019.
تحذير التقرير من تكرار “سيناريو خليج الخنازير” يظهر وجود أزمة ثقة مزمنة بين الطرفين
وعملية “غزو خليج الخنازير” تعود إلى ستينات القرن الماضي وتحديدا إلى 17 مارس 1960 حينما وافق الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور على مقترح قدمته المخابرات يتمثل في تقديم الدعم للمعارضة الكوبية التي تتشكل أساسا من النشطاء الهاربين إلى الخارج، ضمن محاولة للإطاحة بالنظام الشيوعي الذي كان يقوده الراحل فيدال كاسترو.
وكانت الجزيرة التي تقع على بعد 90 ميلا فقط من ساحل فلوريدا في تحالف وثيق مع الولايات المتحدة تحت قيادة الجنرال اليميني باتيستا، وكانت تشكل حديقتها الاقتصادية الخلفية، على غرار الجزائر بالنسبة إلى فرنسا.
وعقب الإطاحة بباتيستا عام 1959 إثر احتجاجات قادها كاسترو توترت العلاقات بين الجانبين، رغم أن الأخير ذهب إلى واشنطن لتقديم تطمينات والحصول على دعمها لكن الأخيرة رفضت لترد كوبا بالانضمام إلى المعسكر الآخر المتمثل في الاتحاد السوفياتي حينها.
وردت واشنطن بحظر تجاري واسع على كوبا. وفي أبريل 1961، عقب تنصيبه مباشرة، وافق الرئيس الأميركي جون كينيدي على خطة لغزو كوبا والإطاحة بنظامها الشيوعي الوليد. وأنزلت المخابرات الأميركية بضع مئات من الكوبيين المنفيين في خليج الخنازير على الساحل الجنوبي للجزيرة بهدف إثارة انتفاضة مناهضة لكاسترو، غير أن كينيدي ألغى الخطة في اللحظة الأخيرة متعهدا بدعم المقاومة عبر القوات الجوية الأميركية ما تسبب في هزيمتهم واعتقال وقتل الكثيرين.
ويقول المراقبون إن استحضار التقرير، الذي يعبر عن الموقف الرسمي الجزائري، لعملية خليج الخنازير لا يعكس فقط أزمة ثقة بل وأيضا رسالة مباشرة إلى باريس تفيد بأنها في حال أرادت فعلا المضي قدما في بناء العلاقات فإن عليها التخلي عن احتضان المعارضة الجزائرية، وهذا سيضع الإليزيه في موقف صعب؛ فإما الانتصار لقضايا الحقوق والحريات أو إعلاء لغة المصالح.
وحسب وسائل إعلام من البلدين، فإن الناشطة المعارضة وصلت إلى فرنسا مساء الاثنين، قادمة من تونس. لكن هذه الرحلة مازال يكتنفها الغموض، بحكم أن الناشطة ممنوعة من السفر في الجزائر، كما سحبت منها السلطات جواز سفرها.
وذكر موقع “فرانس 24” الأربعاء أن بوراوي الحاملة للجنسيتين الفرنسية والجزائرية، أوقفتها تونس الجمعة حيث “كانت تواجه خطر الترحيل إلى الجزائر، وتمكنت أخيرا من ركوب طائرة متجهة إلى فرنسا مساء الاثنين”.
وقالت الإذاعة الجزائرية الرسمية في تقرير الخميس إن خطوة باريس بمثابة “ألف خطوة نحو الوراء، بعد خطوة نحو الأمام”، في إشارة إلى تحركات شهدتها العلاقات الثنائية خلال الأسابيع الأخيرة.
وأكدت صحيفة “المجاهد” الجزائرية الناطقة بالفرنسية (حكومية) أن الواقعة “تضفي برودة على العلاقات الثنائية”، وتساءلت “كيف لسياسة فرنسا التي تتميز بالتقدم خطوة والتراجع عشر خطوات أن تساعد على تهدئة النفوس؟!”.
وتعطي ردود الفعل الرسمية والإعلامية الجزائرية مؤشرات بشأن مستقبل العلاقات مع فرنسا، خاصة مصير الزيارة المرتقبة في مايو المقبل للرئيس عبدالمجيد تبون إلى فرنسا تلبيةً لدعوة من نظيره الفرنسي ، والتي أصبحت محل شك.