بحكم موقع بلدهم الجغرافي، شغف المغاربة منذ القرن الثاني عشر الميلادي بالسفر وارتياد الأفاق في أصقاع المعمورة، وتركوا متوناً رحلية كثيرة ونوعية دونوا فيها مشاهداتهم وانطباعاتهم للبلاد التي زاروها، أو حطوا الرحال فيها لفترة من الزمن.
وإذا كان العصر الوسيط قد شهد ازدهار الرحلات الحجية التي كانت تشد رحالها إلى الحجاز والأراضي المقدسة في فلسطين، إلا أنه ستنطلق بموازاة معها ما سمي بالرحلات السفارية تحت تأثير تطور العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وجيرانه في شمال حوض البحر الأبيض المتوسط، ما بين القرن السابع عشر وبداية القرن العشرين على نحو يكشف عن تطور وعي الرحالة المغربي إلى فضاء مرتحل إليه مختلف مرجعياً وثقافياً (فرنسا، إسبانيا، إنكلترا، إيطاليا…)، وتطور موقفه من الآخر غير المسلم – كما وقف عليه الأكاديمي محمد سعد الزموري في أحدث أبحاثه – من موقف منغلق ومتمركز حول الذات كما في هذه الرحلات: «ناصر الدين على القوم الكافرين» لأحمد بن قاسم الحجري، و«رحلة الوزير في افتكاك الأسير» لمحمد الغساني الأندلسي، و«نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد» لأحمد بن المهدي الغزال، و«الإكسير في فكاك الأسير» لمحمد بن عثمان المكناسي، و«رحلة محمد الصفار إلى فرنسا» و«رحلة الملك العزيز بمملكة باريز» لمحمد بن إدريس العمراوي، و«إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار» لإدريس الجعيدي السلوي، و«التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإصبنيولية» لأحمد الكردودي، إلى موقف منفتح ومتفاعل مع منجزات الحداثة الغربية كما في هذه الرحلات: «حديقة التعريس في بعض وصف ضخامة باريس» لعبد الله الفاسي و«الرحلة الأوروبية» لمحمد الحجوي و«أسبوع في باريس» لمحمد بن عبد السلام السايح وغيرها من الرحلات التي توجهتْ إلى فرنسا بوجه خاص، وكان يقوم بها أعيان المخزن، أو وجوه من النخبة المثقفة (علماء دين، دبلوماسيون، أدباء، طلبة علم…)، حتى إن الإقامة العامة في المغرب كانت تحفزهم عليها وتدفعهم لنشرها وتداولها لتحسين صورتها كبلد عصري ومتحضر ونموذج يحتذى به، أو لخلق نخبة موالية لها أو متعاطية مع قيمها وآدابها.
وقد انتعش البحث الأكاديمي المغربي لدراسة تلك المتون الرحلية وتحقيقها وعقد المؤتمرات العلمية حولها، يقوده جيل جديد من الباحثين المتمرسين بأدوات العلم والمعرفة، لأن هذه المتون القديمة والحديثة تزخر، باختلاف مقاصد الرحلة وخطابها السردي ولغات تمثيلها للعالم، بفوائد ومعلومات تاريخية وجغرافية وأنثروبولوجية وفقهية وأدبية لا غنى عنها للباحث في دراسة التاريخ الثقافي والدبلوماسي للشعوب، وتتبع تطور الأفكار والعقليات بالنسبة إلى العلاقة بين الذات والآخر.
باريس «المسلمة»
تعد «رحلة إلى فرنسا مع السلطان مولاي يوسف قصد تدشين مسجد باريس سنة 1926» للهاشمي الناصري الهشتوكي (بيت الحكمة، 2020) من ثمار هذا البحث، وقد حققها المؤرخ مصطفى الغاشي، وقدّم لها بكلمة مستفيضة ومهرها بحواشٍ تاريخية وتوثيقية مفيدة. ولهذه الرحلة قيمة تاريخية وثقافية وأنثروبولوجية جمة، إذ كُتبت في لحظة حاسمة من زمن الحماية الفرنسية وتوغل سياستها الاستعمارية في المغرب. وبسط المحقق في معرض تقديمه أبرز جوانب هذه القيمة؛ منها أن الرحلة تزامنت مع تقهقر جيوب المقاومة في الريف والأطلس والجنوب الصحراوي، وأنها كُتبت بأسلوب تقريري مفصل يرصد كل ما يلاحظه الرحالة وينبهر به أثناء مسار السفر عبر الباخرة (الدار البيضاء – طنجة – مرسيليا) أو القطار (مرسليا – باريس ونواحيها من المدن والبلدات) دون اعتماده وسائط بلاغية تزيينية، ثم إنها احتشدت بمعطيات تاريخية مهمة لا تذكرها المصادر التاريخية الأخرى، تتعلق بظروف الرحلة وحيثياتها، ولائحة بأسماء الوفد المغربي وتنقلاته منذ وصوله إلى باريس، والجمهرة العظيمة أثناء الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، وتدشين مسجد باريس، والحياة الصعبة للجالية المغربية في فرنسا، التي يقدر عددها بستين ألفاً، وزواج أفرادها بالأوروبيات وغير ذلك.
والرحلة هي بمثابة زيارة لوفد رسمي من أعيان المخزن وممثليه، من مناطق مختلفة من المغرب، استدعاهم السلطان مولاي يوسف (1881- 1927) ورافقوه في سفره إلى فرنسا، ومعظمهم ليست لهم «سوابق» مع إدارة الحماية الفرنسية، بل فيهم من ساعدها في سيطرتها على دواليب المغرب وجيوب المقاومة في جنوبه تحديداً؛ وهو ما يُفهم من حفاوة الاستقبال التي قوبل بها هذا الوفد هناك، أو من خلال الزيارات التي قام بها للقيادات العسكرية الفرنسية التي غادرت المغرب أو ما زالت في الخدمة الاستعمارية، وعلى رأسها المارشال ليوطي (1854- 1934) أول مقيم عام فرنسي بعد احتلاله، والجنرال كَورو (1867- 1946) الذي خلف، وتيودور ستيغ (1868- 1950). لكن السياق الذي اندرجت فيه الرحلة كان يتمثل في افتتاح المعهد الإسلامي وتدشين المسجد الجامع في قلب العاصمة الفرنسية باريس سنة 1926، كأن فرنسا الاستعمارية تريد استغلال هذا الحدث لإثبات حسن النوايا ومتانة الروابط تجاه المغرب وباقي البلاد الإسلامية التي تستعمرها، ضمن التحول الذي عرفته سياستها الخارجية في إطار الاتحاد الفرنسي ـ الإسلامي، ودورها كقوة استعمارية في ترسيخ مبدأ التعايش والالتزام بحرية المعتقد الديني واحترام الخصوصية الثقافية، بل الاعتراف بتضحيات المسلمين من أبناء المستعمرات في شمال افريقيا، الذين ماتوا دفاعاً عن حرية واستقلال فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى (حوالي سبعين ألف جندي قتيل).
كما يعكس الحدث طابع الشرعية الدينية نظير الدور الذي يمكن أن يضطلع به سلطان المغرب الأقصى مولاي يوسف، باعتباره أمير المؤمنين في رعاية الشؤون الدينية لمسلمي فرنسا والمهجر بوجه عام، إذا علمنا بأن إرهاصات فكرة بناء مسجد باريس تعود إلى ما قبل عهد الحماية عام 1912، إذ وردت ضمن نصوص «اتفاقية السلام والتجارة» التي وقعها السلطان محمد بن عبدالله وممثل دولة فرنسا بتاريخ مايو/أيار 1767، وتضمن الحرية الدينية للفرنسيين والأوروبيين في المغرب، كما الحرية الدينية لأتباع الإمبراطور المغربي على أرض فرنسا.
وتبقى الرحلة بمثابة خطاب ثقافي يعكس سمك الصورة وتكاثرها، على نحو يجعلها تحتضن تاريخا من الصور والتمثيلات الواقعية والمُتخيلة، وتنقل أفكارا ومشاهدات وخطابات عن الفضاء المرتحل إليه، والمختلف إيديولوجيا وثقافيا.
مشاهد وغرائب
بما أن الرحالة الهاشمي الناصري الهشتوكي (1871- 1936) هو فقيه وكاتب خاص لأحد قادة «المخزن» ورجله القوي في الجنوب؛ واسمه القائد الطيب الكندافي (1855- 1928)، فلا تخفى عبارات الولاء والتفخيم التي يظهرها له في متن الرحلة: «توجه سيادة القائد رعاه الله/ وسيادة القائد حفظه الله ينظر إليّ../ وسيادة القائد حفظه الله ما قصر معهم في الإكرام على عادته مع كل واحد»؛ فقد كان بمثابة عينه التي ترى ويده التي تكتب، وجاءت عبارته بدوية عامية دارجة، وأحياناً محايدة لا دخل لذاتيته فيها بالإجمال، وثقافته العصرية شبه معدومة، وانطباعاته ومشاهداته أثناء الرحلة يداخلها الإعجاب والانبهار بما يصفه من مظاهر التمدن الفرنسي، ولهذا «جاءت لغته – كما يقول محقق الرحلة مصطفى الغاشي- بعيدة عن القدح والتهجم على الرغم من انتمائه الديني المسلم واختلافه عن فرنسا العلمانية».
فهو يبدو منفتحاً في موقفه من الآخر الفرنسي، ومتحوطاً من سوء التصرف والإذاية تجاهه، ومتسامحاً مع عاداته وآدابه في اللباس والمائدة والاجتماع والمعتقد واللغة، لأنه يصدر في هذا الموقف عن ارتباطه بدائرة المخزن الذي تربطه بنظام الحماية الفرنسية عهود ومواثيق، وولائه للقائد الكندافي الذي كانت له بدوره علاقة موالاة بهذا النظام، كما يظهر من لقائه ببعض الجنرالات، مثل الجنرال كَورو الذي أبى أن «يخصصه بالمذاكرة وحده، والمخاطبة قبل غيره من الأعيان الحاضرين وقال له: إن تلغرافات وصلتنا من جميع أحبابنا الذين في المغرب بالوصية عليك». ومن ثمة، فقد كان يرعى في نقل مشاهدات الرحلة وأحداثها، واجب التحفظ والحرص على الدقة والأمانة من خلال ذكر الأعداد والنسب والحجوم، ومراعاة الاختصار وعدم التعليق على ما يجري نقله. ولكن الرحالة، بما هو ذات تاريخية، يسعى إلى فهم ما يجري في فرنسا من المعطيات التي واجهها ورآها رأي العين، ويحاول أن ينقل منجزاتها الحضارية بطريقة تقريرية مفصلة على سبيل احتذائها واللحاق بركبها، فكانت عينه الراصدة تتبع هذه المنجزات المتنوعة ويذكرها بمصطلحاتها الفرنسية في شيء من الدقة أو على وجه التقريب (الشمندفير، البابور، المكينة، الكمبانية، الأتـيل، الأطموبيلات، الطرومايات، البوليس، التياطرو، الفبركة، الأكَار، إلخ).
وإذا كان قد برع في وصف المشاهد الطبيعية، وطرق استغلال الفدادين الفلاحية، والأراضي المحروثة التي تزدهر بأنواع الثمار والغلال، والقطاعات الاقتصادية، ولفتت نظره مرافق باريس ومعالمها المشهورة (برج إيفل، قوس النصر، دار البورصة، حديقة الحيوان..) ونهرها الذي يموج بـ»الفلائك»، ووسائل النقل الحديثة وحركة الناس في الشوارع وغير ذلك من «العجائب والغرائب التي لا يقدر العقل على حصرها ولا اللسان الفصيح على نشرها»، وأحسن وصف المسجد بهندسته المغربية الأندلسية وروضه، الذي يتلألأ بالزليج الأخضر الفاسي الرفيع، والمراسيم التي صاحبت تدشينه، غير أن عجزه بان أثناء وصف أو تمثيل بعض المشاهد أو الخواص الأجنبية الغريبة عنه، وحاول أن يسده بسذاجة وعيه أو يستنجد بإطار مرجعه الديني والثقافي لمحاولة فهمه وتأويله؛ كأن ينعت حديقة الحيوان بـ»جنان الوحوش»، ويشبه اصطفاف السيارات في باريس بالبقر: «والأطموبيلات في الشوارع مثل دولة من البقر، بعضه تابع للبعض، وفمه على ذنب الآخر، والشيء كله بالترتيب التام»، ويرى في زيارة قبر الجندي المجهول عبادة وثنية للنار: «فإذا بكثير من النصارى رجالا ونساء دخلوا إلى المحل الذي فيه القبور المذكورة يزورونه، وكانوا أوقدوا فيه نارا مؤججة تخرج من كوة مبنية على حجرة تحت الأرض موقدة بالكَاز، فتلك النار يعبدونها دون الله..»، وفي ضيافة الطبيب فغر فاه مما رأت عيناه من صنعة الطب وأدواته التي تعمل بالكهرباء، وتعجب من حركة المصورين أثناء حفل التدشين: «بعضهم يجري للقُدام وبعضهم للوراء، كأنهم واقفون على النار، فـ(إنا لله وإنا إليه راجعون)».
كما أنه كان يستعين في بعض المرات بمداركه وتمثلاته السابقة لوصف مشاهدات الحاضر؛ كأن يشبه نهر السين الذي يجري في باريس بنهر النيل الذي شاهده أثناء مسيره إلى الحج، وذكرته المناطق المزروعة بين ليون ومرسيليا بالعنب الزحاف بمثل ما يكون في دكالة، ويرى في برج إيفل شكل الصومعة، أو يتمثل بورصة تداول العملات بأنه «الدلالة على رؤوس الأشهاد». لكن الرحلة في كل الأحوال قد عبرت، على نحو صريح أو ضمني، عن أوجه الاختلاف بين حضارتين مختلفتين وإطارين مرجعيين متباينين: الإيالة الشريفة المغربية في مقابل الدولة الفرنسية، والجلابيب في مقابل الكبابيط والشمارير من لباس النصارى، والتحية بالموسيقى البلدية والطنابير العسكرية الوطنية في مقابل «تسريط «عسكر المشاة، وطابور العبيد بخيلهم في مقابل المدافع الكبرى والطموبيلات الحربية، وربما لخصت العبارة التالية كل شيء في هذا التقابل المرآوي الصارخ: «»وإذا وقفت على حاشية ذلك المحل ترى باريز كله تحت نظرك، فتفرجنا فيه لجهتنا، حتى اجتمع علينا كثير من الناس، وعملوا حلقة عظيمة علينا، يتعجبون منا ومن لباسنا ومن جميع أحوالنا، حيث إنهم ما قط نظروا إلى أحد من الناس المروكيين في بلدنا إلا نحن».
وتبقى الرحلة بمثابة خطاب ثقافي يعكس سمك الصورة وتكاثرها، على نحو يجعلها تحتضن تاريخا من الصور والتمثيلات الواقعية والمُتخيلة، وتنقل أفكارا ومشاهدات وخطابات عن الفضاء المرتحل إليه، والمختلف إيديولوجيا وثقافيا. ولا ينتقل صاحب الرحلة، في كل الأحوال، بجسده ومتاعه المادي فقط، بل بوعيه ولغته وثقافته إلى هذا الفضاء، فيواجه «الآخر» ويبني من خلال لقائه به صورةً «ثقافية» عنه تتداخل فيها عناصر عاطفية وتاريخية وأيديولوجية هاجعة في المخزون الجمعي وذاكرة النصوص والأجيال.