بينما بدت الرباط مبتهجة لحصيلة الاجتماع رفيع المستوى الذي جمع حكومتها مع نظيرتها الإسبانية، أول أمس الخميس، يسجل مراقبون أن العلاقات المغربية ـ الفرنسية تشهد فتورًا غير مسبوق، فهل تكون سياسة المغرب لتنويع شركائه السياسيين والاقتصاديين وراء هذا الوضع؟ والحال أن باريس كانت توصف حتى وقت قريب بكونها الشريك الأول للرباط، بحكم الماضي الاستعماري للدولة الفرنكوفونية الأوروبية. وهل تريد «ماما فرنسا» ـ كما يطلق عليها تندرا في المغرب ـ أن تبقى مهيمنة وحدها على علاقات هذا البلد المغاربي الخارجية، وربما حتى على بعض ملفاته السياسية والاقتصادية المحلية؟
يبدو أن العلاقات المغربية الفرنسية تعيش على وقع برود وأزمة صامتة لا يعرف متى ستنتهي، عقب قرارات الرباط بإلغاء زيارة نائب مدير شمال إفريقيا والشرق الأوسط في الدائرة العامة للتسليح في وزارة الدفاع الفرنسية، أوليفييه لوكوانت، الذي كان من المقرر أن يزور المغرب بين 23 و24 يناير المنصرم. كما ألغت انعقاد اللجنة الاستشارية المشتركة حول التعاون القضائي، التي كانت مقررة يومي 30 و31 من الشهر نفسه. كما لا يُعرف إن كانت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي كانت مقررة بداية العام الجاري ما زالت قائمة أم لا.
وسائل إعلامية محلية قالت إن أسباب فتور العلاقات بسبب اتهامات لباريس بكونها الواقفة وراء الموقف الأوروبي الجديد تجاه المغرب، وهو ما تنفيه باريس التي تؤكد حرصها على بناء علاقات متينة مع المغرب، ونفت فرنسا وجود أي شكل من أشكال الأزمة الدبلوماسية مع المغرب، معتبرة أن «العلاقة الثنائية بينها وبين المغرب ليست استثنائية فحسب، بل إنها تعتزم تحسينها في السنوات المقبلة»، إلا أن واقع الحال يقول العكس.
محللون مغاربة ساروا إلى التأكيد أن من بين أهم أسباب الأزمة مع فرنسا، التي تعد شريكاً تقليدياً للمغرب، رفض التقارب والتعاون الحاصل بين المملكة المغربية وعدد من الدول من بينها روسيا والصين وألمانيا واسبانيا وغيرها، وتنظر بسخط وعدم رضا لسياسة المغرب القاضية بتوجهه نحو تنويع شركائه السياسيين والاقتصاديين وعدم الاقتصار على قطب واحد.
يرى عبد الفتاح بلعمشي، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في جامعة القاضي عياض بمراكش، أن تنويع المغرب لعلاقاته الخارجية خاصة ذات البعد الاقتصادي، ثبت بالفعل خلال فترة جائحة «كورونا» حين تعامل مع جهات ودول مختلفة علاقة بالتلقيح، إضافة إلى المواقف التي اتخذت في بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأضاف: «نلاحظ اليوم أن المغرب لم يعُد يتعامل مع أوروبا كشريك رئيسي استراتيجي بشكل شمولي، المغرب بات يربط علاقات جيدة مع إسبانيا وهو ما ظهر خلال الاجتماع الثنائي المغربي الإسباني المنعقد طيلة يومي الأربعاء والخميس في الرباط، وترأسه رئيسا حكومتي البلدين، بالإضافة إلى علاقة المغرب مع ألمانيا، وكذا العلاقة المستقبلية مع البرتغال».
وأبرز الدكتور بلعمشي متحدثاً لـ «القدس العربي»، أنه على الرغم من السياسات الأوروبية فهناك علاقات ثنائية للمغرب والتي توسع من هامش حضوره في العلاقات الثنائية مع الدول، وهذا لا يروق مجموعة من الجهات داخل أوروبا التي تجامل المغرب أحياناً وأحياناً أخرى تتحرش بمصالحه، خصوصاً بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.
رئيس «المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات»، لفت إلى أن هذه المعادلة التي اختارها المغرب في علاقاته الدولية «معادلة صعبة لكنها منتجة»، ذلك أن المملكة تربط علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وفي الوقت نفسه تتجه نحو إفريقيا وبزخم معين، وكذلك تتعامل مع دول الجوار وإسبانيا على الخصوص على مستوى استراتيجي كبير ورفيع، وتخدم في الآن ذاته القضية الفلسطينية من خلال رئاستها للجنة القدس، خالصاً إلى القول «إن هذه المعادلة تمنحه نوعاً من الالتزام والشراكات الموثوقة على الرغم من اختلاف الوجهات، والهدف هو خدمة المصلحة الوطنية والتي هي فوق كل اعتبار»، وفق تعبير الأستاذ الجامعي.
ويرى رشيد لزرق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ابن طفيل في مدينة القنيطرة، أن العقل الفرنسي مازال يعتبر مستعمراته القديمة حدائقه الخلفية، والحال أن المغرب خطط لبلوغ مصافِّ الدول الصاعدة بما يفرضه ذلك من تنويع شركائه، هذا مسار لم تستوعبه فرنسا بعدُ من خلال لعبها على منطق الاستعمار باستغلال التناقضات واللعب عليها عوض تأسيس لمنطق رابح ـ رابح وتنزيل شراكة استراتيجية تستوجب حرص كل طرف على المصالح العليا للطرف الآخر.
وأوضح الخبير المغربي ضمن تصريح لـ «القدس العربي»، أن الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية واتجاه المغرب إلى عودة علاقته مع إسرائيل أشعر فرنسا بالتخوف في وقت تحولت توجهات الدبلوماسية الاقتصادية المغربية، من خلال فرضها التعامل بِندّية وخدمة القضايا الوطنية في إطار التحول واعتماد نموذج جديد يفرض تفعيل المقومات الداخلية والسياسية الخارجية لخدمة التنمية الوطنية ورفع تنافسية الاقتصاد المغربي في ظل تحديات كبرى تفرضها العولمة الاقتصادية فرضت تنويع الشركاء.
«المغرب بما يحتله من مكانة جيو استراتيجية يمكنه استغلال موقعه لإحداث نقلة اقتصادية كبيرة، وبلوغ مصاف الدول الصاعدة، وتحرير الاقتصاد من التبعية المفرطة لفرنسا واعتماد دبلوماسية اقتصادية فعالة»، يقول الدكتور لزرق.
وتابع الأستاذ الجامعي أن ذلك يأتي في إطار خدمة ثوابت سياسة المغرب الخارجية التي تسعى لخدمة الوحدة الترابية والانفتاح على إفريقيا واستغلالها لولوج أسواق الجوار الإفريقي التي تعد أسواقاً استهلاكية واعدة قوامها 700 مليون نسمة وأرضاً خصبة للفرص الاستثمارية، بالنظر لحجم إمكانيات العمق الإفريقي وأهمية التجارة عبر المعابر وإحداث مناطق تبادل حر، مشيراً إلى أن المغرب ينوع شركاءه بغاية مواجهة التحديات المفروضة، والاستفادة من الفرص عبر تعبئة الجهود الدبلوماسية لخدمة الاقتصاد من أجل تحقيق الإقلاع الوطني.