بعد تراجع فرنسا.. إيطاليا تتحدى نفوذ الصين وروسيا في إفريقيا
بعد تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا، وتصاعد الحضور الاقتصادي الصيني والعسكري الروسي بالقارة السمراء، تسعى إيطاليا لقيادة عودة أوروبا إلى القارة وفق استراتيجية تنموية جديدة، تنطلق أولا من شمال إفريقيا وبالأخص من الجزائر.
إذ أعلنت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، عند زيارتها إلى الجزائر في 22 و23 يناير، أنها ستزور دولا أخرى في شمال إفريقيا، دون تحديدها.
ومن المرتقب أن تكون ليبيا المحطة القادمة لميلوني في المنطقة، بعد استقبال وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش سفير روما لدى طرابلس جوزيبي بوتشينو غريمالدي، “لمناقشة الاستعدادات اللوجستية لزيارة وفد رفيع المستوى برئاسة رئيسة الوزراء الإيطالية إلى ليبيا”.
كما سبق لميلوني أن زارت مصر، خلال قمة المناخ التي استضافتها الأخيرة بمنتجع شرم الشيخ في نوفمبر 2022.
وفي تونس، زار وزير الخارجية الإيطالي أنتونا تاياني، ووزير الداخلية ماتيو بيانتيدوزي، البلاد لبحث ملف الهجرة غير النظامية.
فأولوية شمال إفريقيا ضمن الخطة الإيطالية في القارة كشفت عنها ميلوني بوضوح عندما قالت “بالإشارة إلى خطة ماتي، فإننا في هذه المرحلة الأولى نركز بشكل كبير على منطقة البحر المتوسط، وبالتالي تصبح شمال إفريقيا أولوية مطلقة. والجزائر، من وجهة النظر هذه هي الشريك الأكثر إستراتيجية والأطول عمرا”.
فالطاقة ومكافحة الهجرة غير النظامية ومواجهة تصاعد النفوذ الروسي والصيني هي الملفات الرئيسية التي تضع منطقة شمال إفريقيا (العربية) على رأس أولويات روما.
تحدي النفوذ الصيني والروسي
الاستراتيجية الجديدة عبرت عنها بقولها إن “المصلحة الجيوسياسية لأوروبا بأكملها أن تكون أكثر حضوراً في إفريقيا”، وأيضا “لكبح جماح نفوذ روسيا والصين الذي ازداد كثيرا مع وجود عناصر واضحة مزعزعة للاستقرار” هناك.
وبناء على هذا التهديد الجيوسياسي لأوروبا، وبالأخص تواجد عناصر شركة فاغنر الروسية في ليبيا غير بعيد عن السواحل الإيطالية، أطلقت روما “خطة ماتّي لإفريقيا”، لكسر هيمنة الصين وروسيا، مثلما كسر إنريكو ماتي، مؤسس عملاق الطاقة الإيطالي “إيني” هيمنة سبع شركات غربية كبرى للطاقة (الأخوات السبع) على قطاع النفط والغاز في العالم.
فمجموعة “إيني” ستكون رأس حربة الاستراتيجية الإيطالية “التنموية” الجديدة في إفريقيا، والتي تختلف عن النموذج الفرنسي الذي يغلب عليه التدخل العسكري الفج وما اعتبرته ميلوني عندما كانت نائبة في البرلمان الإيطالي “استغلالا فرنسيا لموارد القارة”.
كما تختلف الخطة الإيطالية عن النموذج الأمريكي الذي يتبنى سياسة العقوبات ضد فاغنر، والضغوط الدبلوماسية على الدول الإفريقية الشريكة لروسيا والصين، والمساعدات الإنسانية للقارة.
النموذج الإيطالي أقرب للسياسة الصينية المبنية على الشراكة الاقتصادية، لكن روما تركز أكثر على الشراكة في مجال الطاقة من خلال التنقيب عن الغاز والنفط وإنتاجه واستيراده، وأيضا الشراكة في قطاع الطاقات المتجددة، لتكون الطاقة قاطرة للاستثمارات الإيطالية في قطاعات أخرى.
فوقوف الحكومة اليمينية في إيطاليا مع حلفائها الغربيين إلى جانب أوكرانيا في حربها ضد روسيا، يجعل مصالحها في شمال إفريقيا مهددة، خاصة في ليبيا، التي تستحوذ شركة إيني على حصة الأسد من الاستثمارات في قطاع المحروقات، بل تحتكر صادرات البلاد من الغاز.
وكثير من حقول النفط والغاز الليبية في شرق وجنوب البلاد، تقع ضمن نطاق نفوذ شركة فاغنر الأمنية، ما يجعل المصالح الإيطالية تحت رحمة روسيا.
إيطاليا تزيح الصين من الجزائر
من المبكر الحديث عن نجاح الخطة الإيطالية في إفريقيا، لكن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون فجر مفاجأة لم تتوقف عندها الكثير من وسائل الإعلام، عندما أعلن أن المبادلات التجارية بين البلدين ارتفعت من 8 إلى 16 مليار دولار ما بين 2021 و2022.
ولا تكمن أهمية الرقم فقط في تضاعف المبادلات التجارية بين البلدين، بل الأهم من ذلك أن روما أزاحت الصين من صدارة أكبر شركاء الجزائر التجاريين.
فمنذ 2013، لم تتمكن أي دولة من التفوق على الصين من حيث حجم المبادلات التجارية التي تجاوزت في السنوات الأخيرة 9 مليارات دولار، معظمها صادرات صينية.
ولم تعلن بعد الأرقام الرسمية لحجم المبادلات التجارية بين الجزائر والصين في 2022، إلا أنه من المستبعد أن تكون تجاوزت حجم المبادلات الجزائرية الإيطالية.
فسياسة الجزائر في عهد تبون تسعى لتقليص فاتورة الواردات وزيادة الصادرات، ما لا يخدم ارتفاع المبادلات مع الصين، التي تعتبر أكبر ممون لسوق الجزائر بنحو 8 مليارات دولار مقابل نحو مليار دولار صادرات جزائرية للصين.
في حين تُعتبر إيطاليا الزبون الأول للغاز الجزائري، ومع تضاعف أسعار الغاز عالميا في 2022 وزيادة الجزائر للكميات المصدرة لإيطاليا من 21 إلى 24 مليار متر مكعب في العام المنصرم، تحققت هذه القفزة في المبادلات التجارية مدفوعة بارتفاع قياسي للصادرات الجزائرية نحو إيطاليا.
ومع اتفاق البلدين على زيادة حجم صادرات الغاز الجزائري إلى إيطاليا لتبلغ 28 مليار متر مكعب سنويا في 2024، فإن روما ستكرس نفسها شريكا أولا للجزائر، مبتعدة بمليارات الدولارات عن الصين.
وبعد اكتمال إنجاز أنبوب غالسي لنقل الغاز الطبيعي بين البلدين وأيضا الهيدروجين الأخضر والأمونيا الزرقاء والخضراء، بالتوازي مع إنشاء خط لتصدير الكهرباء من الجزائر إلى إيطاليا، وأيضا فتح مصنع فيات الإيطالي بالجزائر في مارس/آذار المقبل، فإن حجم المبادلات بين البلدين ستصل إلى سقف من الصعب على الصين تجاوزه.
فالنموذج الصيني يعتمد على كثافة التصدير للسوق الجزائرية، لكنه ليس زبونا كبيرا للمحروقات الجزائرية (نفط وغاز)، التي تمثل نحو 88 بالمئة من الصادرات الجزائرية، ما يجعل من الصعب على الصين منافسة إيطاليا على صدارة شركاء الجزائر التجاريين.
ومع ذلك تبقى الصين الممون الأول للجزائر، بينما إيطاليا الزبون الأول للجزائر.
ومن المستبعد أن ترمي بكين المنشفة بسهولة أمام روما، خاصة وأنها تربطها بالجزائر اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة وتستثمر مليارات دولارات في قطاعات مختلفة على غرار المناجم، وبالأخص استخراج ومعالجة الفوسفات والحديد الخام، وكذلك قطاع تصنيع السيارات، ما سيشعل المنافسة بين البلدين.
مصر وليبيا.. أولوية إيطالية
نجاح إيطاليا في إزاحة الصين من صدارة شركاء الجزائر التجاريين، يشجعها لتكرار نفس التجربة مع مصر وليبيا من نفس البوابة، رفع استثماراتها ووارداتها من الغاز والنفط من البلدان العربية في شمال إفريقيا.
فشراهة إيطاليا في استهلاك الغاز، وامتلاك كل من مصر وليبيا لاحتياطات هامة من الغاز، يدفعها لتعزيز استثمار شركتها إيني في البلدين، سواء من حيث التنقيب أو الإنتاج والاستيراد أيضا.
ولا تمثل الصين تحديا كبيرا لإيطاليا في ليبيا، بالنظر إلى أن عدم استقرار الوضع الأمني في الأخيرة لم يشجع بكين لرمي ثقلها في سوقها، ناهيك عن هيمنة إيني على قطاع المحروقات في ليبيا، بحكم أن إيطاليا المستعمر القديم لها.
لكن التحدي الأكبر لروما يتمثل في روسيا وذراعها الأمني “فاغنر”، التي تمثل تهديدا لاستثماراتها في قطاع النفط بليبيا، ولتدفق الغاز من أنبوب “غرين ستريم” نحوها.
ولا تملك إيطاليا خيارات كثيرة لاقتلاع فاغنر من ليبيا، لكنها تعمل بالتنسيق مع حلفائها الأوروبيين والأمريكيين، وأيضا شركائها الإقليميين مثل تركيا والجزائر ومصر لمحاصرة نفوذ فاغنر ودفعها للانسحاب من البلاد.
أما في مصر، فتمثل الصين تحديا حقيقيا أمام إيطاليا، بالنظر إلى أن بكين تعتبر الشريك التجاري الأول للقاهرة، وتسعى روما لتكرار نفس تجربتها مع الجزائر، من خلال توسيع استثمارات شركتها “إيني” في التنقيب وإنتاج الغاز واستيراده.
ويكفي الإشارة إلى أن “إيني” هي التي اكتشفت حقل “الظهر” المصري في البحر المتوسط، ووقعت اتفاقا معها في أبريل/نسان الماضي لزيادة إنتاج الغاز على المدى القصير وتوفير شحنات من الغاز المسال للتصدير إلى إيطاليا أو أوروبا.
لكن حجم الاستهلاك الكبير للغاز في مصر لا يسمح سوى بتصدير كميات محدودة من الغاز لإيطاليا، ما يعني تكرار التجربة الجزائرية أمر صعب على المدى القريب، إلا إذا تم تحقيق اكتشافات جديدة وإنتاج أكبر وهذا ما تعمل عليها إيني الإيطالية.
فزيادة الواردات الإيطالية من الغاز من شمال إفريقيا وبالأخص الجزائر وليبيا ومصر، من شأنه أن يحرر البلاد من التبعية للغاز الروسي، وتعزيز الشراكة التجارية مع هذه البلدان الثلاثة لتقليص النفوذ الصيني.
أما بالنسبة لتونس والمغرب، فلا تشكل الصين وروسيا تحديا كبيرا أمام إيطاليا مقارنة مع كل من الجزائر ومصر اللتين تربطهما علاقات اقتصادية وأمنية تاريخية.