شنقريحة في باريس.. زيارة بمهام أكثر من عسكرية

بليدي

أنهى الرجل الأول في المؤسسة العسكرية الجزائرية الجنرال سعيد شنقريحة زيارته التاريخية إلى فرنسا، بالتوقيع على اتفاقية تعاون عسكري وأمني، لم يفصح الطرفان عن مضمونها، لكنها جعلت الزيارة سياسية وإستراتيجية أكثر منها عسكرية، لأن الاتفاق المذكور سيؤسس حتما لآفاق تعاون غير مسبوق وبأبعاد إستراتيجية.

زيارة شنقريحة إلى فرنسا هي الأولى من نوعها منذ 17 عاما، حيث سبق لسلفه أن زار باريس، لكنها لم تكن بنفس الأهمية والثقل الذي يحيط بالزيارة الحالية، ولعل الهالة التي أحيطت بها من طرف الإعلام الفرنسي، وتوسيع المشاورات والتشريفات إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، توحي إلى أن الفرنسيين استقبلوا شنقريحة، ليس كمجرد قائد لأركان الجيش، وإنما كشريك فاعل في رسم معالم التقارب بين البلدين.

وكما كانت المسائل العسكرية والأمنية في صدارة مشاورات الطرفين، كانت ملفات سياسية وإستراتيجية حاضرة بقوة، وتناولت تقارير إعلامية فرنسية الزيارة من زاوية التمهيد للزيارة المنتظرة للرئيس عبدالمجيد تبون إلى باريس شهر مايو المقبل يترجم نوايا النخب الفرنسية الحاكمة في تهيئة المناخ لرؤية شاملة يلعب فيها جيش وأمن البلدين دورا مهما، وسيتم التصديق عليها خلال الزيارة المذكورة.

لقد حضر التاريخ وحضرت الذاكرة المشتركة، والمسائل ذات الاهتمام المشترك، والرسالة الخطية من تبون إلى ماكرون، كما حضرت الملفات الإقليمية والدولية، مثل ليبيا ومالي والساحل الأفريقي، الأمر الذي أعطى للزيارة زخما أكثر من توصيفاتها التقليدية، واعتبرت تحولا لافتا في علاقات البلدين.

لفرنسا مصالح في أفريقيا مهددة من طرف المارد الروسي فعاصمة الأنوار لن تضاء إذا توقف يورانيوم النيجر وتجربة الخروج العسكري الأميركي من أفغانستان والعراق مازالت ماثلة أمام دوائر صنع القرار بباريس.

وأبرز ما لفت الأنظار للزيارة، أنها جاءت بالموازاة مع هدوء يخيم على خط الجزائر – موسكو، بعد إلغاء المناورات العسكرية المشتركة التي كانت مقررة شهر نوفمبر الماضي ببشار الجزائرية، وإرجاء زيارة كان ينتظر أن يقوم بها الرئيس تبون إلى موسكو قبل نهاية العام الماضي، مما يفتح المجال أمام تأويلات تغيير الوجهة الجزائرية، لاسيما في ظل الحديث عن ضغوط غربية عليها لتحييدها عن المعسكر الروسي في أزمته مع الغرب.

وفي المقابل تزامنت أيضا مع حملة مناهضة متصاعدة في دول أفريقية حول الوجود الفرنسي في عدد من الدول مثل مالي وغينيا وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، الأمر الذي اضطر باريس إلى الإعلان عن وقف عملياتها والشروع في سحب قواتها تدريجيا وهي لا تصدق أن الشارع الأفريقي صار لا يطيقها، بينما يرحب بما يصفه بـ”الأصدقاء الروس”.

لفرنسا مصالح تاريخية في أفريقيا، مهددة من طرف المارد الروسي، فعاصمة الأنوار لن تضاء إذا توقف يورانيوم النيجر، وتجربة الخروج العسكري الأميركي من أفغانستان والعراق مازالت ماثلة أمام دوائر صنع القرار بباريس، ولذلك ترى أنه لا مناص لها من شريك قوي في المنطقة وموثوق، وهي مواصفات لا تتوفر إلا في الجزائر.

وفرنسا التي قادت ومولت القوة الأفريقية لمحاربة الإرهاب، وظلت تعتبر أفريقيا امتدادها التقليدي في إطار لعبة التوازنات بين القوى الكبرى، تتفاجأ الآن بسحب البساط من تحت أقدامها بإيعاز من ألد عدو أفرزته الأزمة الأوكرانية وصار يهدد وجودها، ولذلك تخطط لإعادة انتشار إستراتيجي في القارة، يقوم على سحب القوات العسكرية مقابل الإبقاء على النفوذ السياسي.

وتكون هذه المعطيات المستجدة هي التي حتمت على باريس البحث عن بديل يمكن أن يحد من تمدد روسيا لوجيستيا واستعلاميا، ويكفل لها استمرار مصالحها بأقل الخسائر، ولذلك تعول على دور جزائري سياسي وعسكري في الساحل والصحراء، فهي بلد أفريقي وإلى حد ما مقبولة أفريقيا، وشريك موثوق للفرنسيين، وبذلك تكون معادلة نادرة العناصر.

لم يكشف عن فحوى الاتفاق العسكري والأمني الذي أبرم في باريس بين الجزائر وفرنسا، لكن مفردة “التمهيد” التي تصدرت عناوين تقارير إعلامية فرنسية، توحي إلى أن الاتفاق سيأخذ صبغته السياسية والرسمية خلال الزيارة المنتظرة للرئيس تبون خلال شهر مايو المقبل.

والطيران الفرنسي الذي عانى كثيرا منذ خريف العام 2021 غداة التوتر المتفجر بين البلدين، وإعلان الجزائر غلق المجال الجوي أمام الطيران العسكري الفرنسي، يكون قد أكد للفرنسيين أن موقع الجزائر وقوتها العسكرية في المنطقة يؤهلانها لشراكة نوعية يمكن أن تغنيها عن متاعب وصداع المزاج الأفريقي الحاد.

لكن في المقابل ما الذي يمكن أن يكون قد جلبه شنقريحة من زيارة إلى باريس دامت أربعة أيام التقى فيها مسؤولين عسكريين وسياسيين، وما هي التنازلات التي تحصل عليها لصالح بلاده، زيادة على التناغم والانسجام بين قيادتي البلدين، لأن الجزائر تنتظر تسوية مشرفة لملف التاريخ والذاكرة المشتركة، ودعما اقتصاديا واستثمارات متنوعة وإرساء شراكة ندية تحترم فيها المصالح والسيادة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: