يثير توقيت الزيارة التي سيقوم بها رئيس أركان الجيش الجزائري سعيد شنقريحة، في نهاية يناير الجاري، إلى فرنسا التساؤل عن الهدف منها؟ خاصة أنها تأتي قبل أسابيع قليلة من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب، ووسط شكوك في أن الجزائر ستبذل كل ما في وسعها لعرقلة التقارب بين باريس والرباط.
وتقول مصادر جزائرية إن زيارة شنقريحة “تأتي تحضيرا لزيارة الرئيس عبدالمجيد تبون المقررة إلى فرنسا، في مايو المقبل”، لكن مراقبين يقولون إن زيارة تبون لا تزال بعيدة، وإنه جرت العادة أن يتولى وزير الخارجية مهمة الاستباق والتحضير لزيارة الرئيس، وهو ما يؤكد أن هذا ليس سوى مبرر للتغطية على الهدف الرئيسي من الزيارة.
ويرى المراقبون أن شنقريحة سيحمل في زيارته إلى فرنسا تفاصيل الملف الأمني الإقليمي لعرضه على باريس. ويتعلق الأمر بالوضع في مالي ودول الساحل، والوضع في دول الجوار خاصة ليبيا، ما يتيح لقائد الجيش الجزائري فرصة رفْع مستوى المساومات والحرص على الحصول على تعهدات فرنسية بالحد من التقارب مع المغرب مقابل المعلومات التي حملها معه.
◙ لا يُستبعد أن تعزز زيارة الجنرال شنقريحة إلى باريس التعاون الأمني والاستخباري وحتى اللوجيستي بين البلدين في بؤر التوتر الأفريقية
ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن قائد الجيش الجزائري سيذهب إلى فرنسا هذه المرة كرجل أمن وسلطة وليس كعسكري وفق ما تمليه الزيارة التقليدية، لافتين إلى أن كل ما له علاقة بالجيش (إستراتيجيات، تكتيكات، أسلحة…) مكانه الطبيعي موسكو وليس باريس، وهو ما يؤكد أن الزيارة ذات بعد استخباري وأمني بالدرجة الأولى، فضلا عن السعي للتأثير على القيادة الفرنسية في ملف المغرب.
وتوجد تخوفات جدية لدى النظام الجزائري من أن يعلن ماكرون في زيارته إلى الرباط عن دعم مقاربة المغرب لحل أزمة الصحراء، والتي تقوم على الحكم الذاتي الموسع، فيما تريد الجزائر أن تظل فرنسا على الحياد في هذا الموضوع، وألا تمنح خصمها انتصارا دبلوماسيا جديدا يظهر أن الدول الغربية المهمة كلها تقف في صف المغرب.
وتتضمن زيارة الرجل، المعروف بميله الأيديولوجي إلى المدرسة الروسية، عدة دلالات سياسية وإستراتيجية، تتمحور حول فرضيات مراجعة الجزائر لخياراتها العسكرية والإستراتيجية، في ظل ضغوط غربية متواصلة منذ عدة أشهر من أجل إبعاد الجزائر عن محور روسيا، لاسيما بعد اندلاع أزمة أوكرانيا في بداية العام المنقضي.
وذكرت برقية صادرة عن وكالة الأنباء الفرنسية أن زيارة شنقريحة “ذات دلالة رمزية؛ فهي غير مسبوقة منذ نحو 17 عاما، ذلك أن آخر زيارة قام بها رئيس أركان جزائري إلى فرنسا تعود إلى الراحل أحمد قايد صالح في مايو 2006″، وهو ما قد يوفر فرصة لإعادة الدفء إلى خط الجزائر – باريس في المجال الأمني والعسكري، بعد فترة فتور أظهر فيها الجيش الجزائري تقاربا وثيقا مع روسيا، في حين اضطرت فرنسا إلى الانسحاب من دول أفريقية تحت ضغط النفوذ الروسي المتزايد.
ومن المنتظر أن يستكمل شنقريحة ما تم بحثه قبل أشهر عندما زار الجزائر قادة فرنسيون من الجيش وجهاز المخابرات.
وكان مسؤولون أمنيون وعسكريون، بمن فيهم قادة الأركان في فرنسا والجزائر، قد عقدوا لقاء وصف بـ”التاريخي”، على هامش الزيارة التي قام بها ماكرون إلى الجزائر في شهر أغسطس الماضي، الأمر الذي سمح بفتح آفاق التعاون بين الطرفين، خاصة وأنهما يتقاسمان عدة ملفات إقليمية في مالي وليبيا والساحل الأفريقي، وإن كان بينهما خلاف بشأن الموقف من موسكو.
وتسبب التقارب العسكري بين الجزائر وروسيا في حملة ضغوط تمارسها دول غربية بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا، من أجل تحييد الجزائر عن المحور الروسي، وعرقلة إبرام الطرفين اتفاقيات تسليح جديدة قدّرت دوائر غربية كلفتها بـ11 مليار دولار، مما اعتبر مساهمة جزائرية في توفير سيولة مالية للروس تسمح لهم بمواجهة حزمة العقوبات المفروضة عليهم بسبب شنّهم حربا على أوكرانيا.
وكانت عدة تقارير دولية قد ربطت تأجيل الرئيس الجزائري لزيارته إلى موسكو، التي كانت مقررة قبل نهاية العام الماضي، بالضغوط الغربية على بلاده.
وخلال الأسابيع الأخيرة لفتت تقارير محلية إلى أن الجزائر تبحث عن مصادر جديدة لتسليح جيشها؛ حيث يتم التشاور مع كل من الصين وتركيا للحصول على أنظمة ومعدات عسكرية جديدة، في رسالة لطمأنة الغرب على استعدادها لتنويع شركائها وتحقيق التوازن مع موسكو.
◙ تخوفات جدية لدى النظام الجزائري من أن يعلن ماكرون في زيارته إلى الرباط عن دعم مقاربة المغرب لحل أزمة الصحراء
ولا يُستبعد أن تعزز زيارة الجنرال شنقريحة إلى باريس التعاون الأمني والاستخباري وحتى اللوجيستي بين البلدين في بؤر التوتر الأفريقية كمالي والساحل، فضلا عن بحث مسألة موقع ونفوذ قوات فاغنر الروسية في باماكو، التي تعتبرها باريس منافسا قويا لها في المنطقة.
وفي وقت سابق ساهم التوتر بين الجزائر وباريس في تعاظم دور روسيا هناك، لذلك يمكن أن تكون الزيارة فرصة أيضا لبحث إمكانية توقيع اتفاقيات تسليح محدودة لتعزيز أواصر الثقة والتعاون التي يبحث تبون وماكرون عن إقامتها.
ويسعى الرئيسان منذ عدة أشهر إلى تخليص علاقات بلديهما من شوائب الملفات الأخرى، لاسيما تلك المتعلقة بالتاريخ والذاكرة المشتركة، وشؤون الجالية والهجرة، وتجاوز تأثير الدوائر المتطرفة في البلدين التي تثير في كل مناسبة العلاقات الملتبسة وتركة الماضي.
وفي سياق متصل تبقى فرنسا القاعدة الخلفية لنسيج بشري جزائري معتبر، مكون من أجيال الهجرة القديمة ومزدوجي الجنسية والمهاجرين غير النظاميين، فضلا عن استيطانها من طرف فاعلين وناشطين سياسيين معارضين للسلطة، وعلى رأسهم حركة استقلال القبائل (ماك) المصنفة تنظيما إرهابيا في الجزائر، وهو ما يرجح بحثه بين الطرفين، باعتبار أن باريس هي مصدر الصداع الأول للسلطة الجزائرية بشأن هؤلاء.