ظهر الرئيس عبدالمجيد تبون منتشيا في افتتاح حفل الـ”شان” في ملعب نيلسون مانديلا بالعاصمة، بما حققته بلاده من إنجازات في المجال الرياضي والشبابي، وهي مكاسب لافتة لم تحققها الجزائر منذ عقود، وإن نسبت إلى حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، فإن ما يحسب لحكومة تبون أنها استطاعت غلق ورشات مزمنة ظلت مفتوحة لسنوات دون أيّ مؤشر على نهايتها.
ملعب نيلسون مانديلا في ضاحية براقي بالعاصمة، هو منشأة عصرية وعالمية بكل المقاييس، وكان قبلها ملعب ميلود هدفي بوهران، وبالموازاة معهما ملاعب أخرى في العاصمة أيضا، وفي تيزي وزو، وعنابة وقسنطينة، وأخرى في الأفق ببشار وورقلة، وكل ذلك يشكل نقلة نوعية في هذا المجال، يحول الجزائر من بلد كان يبحث عن ملعب لاحتضان مباريات منتخبه الوطني الرسمية والودية، إلى بلد قادر على احتضان أيّ تظاهرة قارية أو دولية بكل أريحية.
عندما حضرت الإرادة تم الإنجاز، ولو أن مجرد قفل الورشة والكشف عن المنجز بات يمثل إنجازا في حد ذاته، لأن الانتهاء من تلك الورشات كان بعد سنوات من الوقت والأموال الباهظة، ولا يجب أن ينسى أن تلك المشاريع بعضها استغرق 15 عاما، واستهلك الواحد منها ما يقارب أو يفوق مبلغ الـ300 مليون دولار.
◙ واحدة من النفقات التي كسرت ظهر الصناديق الاجتماعية في البلاد هي التكفل بفاتورة علاج كبار المسؤولين في المستشفيات والمصحات الأجنبية، بينما تعرض وسائل الإعلام تباعا حالات اجتماعية تدمي القلوب
يحسب للحكومة أنها حرصت على إنهاء تلك المشروعات في ظرف قياسي، وسخّرت لها كل الإمكانيات المادية والبشرية، ويشهد لوزير السكن طارق بلعريبي، الذي أوكلت له المهمة بدلا من زميله وزير الشباب والرياضة، أنه كان يقف على سير الأشغال حتى في ساعات الليل والفجر، من أجل أن يكون عند تعهداته ومواعيده.
عندما أرادت السلطة حققت، فاحتضنت البلاد ألعاب البحر الأبيض المتوسط في الصيف الماضي، وها هي الآن تحتضن تظاهرة كروية قارية، فكان لمنتسبي القطاع ما يريدون، وصار الحديث عن عزلة جزائرية رياضية بسبب قلة الإمكانيات والمرافق شيئا من الماضي.
لكن طموحات الجزائريين وحاجياتهم لا تتوقف عند مرافق ومنشآت رياضية وشبابية فقط، فهم في أوج الحاجة إلى مرافق ومنشآت في مختلف القطاعات الصحية والتعليمية والبنى التحتية والخدماتية، تكون في مستوى ملاعب نيلسون مانديلا وميلود هدفي وتيزي وزو.. وغيرها، عندها فقط يمكن الانتشاء بـ”الجزائر الجديدة” التي يسوّق لها.
لقد كتب الصحافي الرياضي حمزة بركاوي، قبل رحيله إلى دار الخلود منذ أيام قليلة، في منشور له بأن “السكانير (جهاز الفحص بالرنين المغناطيسي) هو من نصيب أصحاب الوساطات والنافذين في المجتمع، أما البسطاء فلا حظ لهم”، وهي رسالة مؤلمة تختصر وضعية واحد من القطاعات المريضة في البلاد، رغم أنه يسمّى بقطاع الصحة وظل شعاره منذ أكثر من عقدين “وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات”، إلا أن الإصلاح المذكور هو كذلك ورشة مفتوحة ولا أمل في إقفالها ورؤية نتائجها.
الجزائريون كما انتظروا لعقود رؤية ملاعب كروية في مستوى ملاعب فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، فهم ينتظرون أيضا مستشفيات في مستوى مستشفيات ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وينتظرون طرقات ومواصلات ومدارس وخدمات في نفس المستوى، وينتظرون فتح ورشة وغلقها في الموعد المحدد، بدل أن تتحول إلى متحف مفتوح للأنظار بما يثيره من صداع وحرج.
الجزائري سيكون فخورا عندما يسمع أن واحدا من المسؤولين الكبار حوّل إلى العلاج في مستشفى أو مصحة ما في العاصمة أو وهران أو عنابة وحتى بشار أو ورقلة، لأنه سئم من المفاضلة العجيبة والغريبة بين النخب الحاكمة التي تعالج في الخارج، بينما بقية الشعب يعاني الويلات في مرافق صحية بعضها يعود إلى العهد الاستعماري، ولأنه لم يسمع أن رئيس ألمانيا أو فرنسا أو سويسرا تنقل للعلاج خارج حدود بلاده، فذلك أيضا وجه من وجوه السيادة والكرامة.
واحدة من النفقات التي كسرت ظهر الصناديق الاجتماعية في البلاد هي التكفل بفاتورة علاج كبار المسؤولين في المستشفيات والمصحات الأجنبية، بينما تعرض وسائل الإعلام تباعا حالات اجتماعية تدمي القلوب، حول وضعيات صحية تتطلب مبالغ ضخمة من أجل تسفيرها للعلاج في الخارج، لأن المرافق والمستشفيات المحلية لا تقدر على ذلك.
الرئيس تبون، الذي ظهر مزهوّا في حفل افتتاح الـ”شان” بملعب نيلسون مانديلا، أمامه ركام من الانتظارات التي يتطلع إليها الجزائريون، في الصحة والتعليم والنقل والمواصلات والبنى التحتية ومختلف الخدمات، وعندها فقط يمكن له أن يردد على أسماع الجميع “أنا عرّاب الجزائر الجديدة”.
لقد احتضنت وهران ألعاب البحر الأبيض المتوسط بعد شك وريبة، وتحتضن مدن البلاد منافسة الـ”شان” الأفريقية، وتنتهي التظاهرات وتبقى المرافق والمنجزات لفائدة الشباب والرياضيين، لكن ما جدوى ذلك إذا كان المستفيد نفسه لا يجد خدمات صحية وتعليمية ومعيشية رديئة، ولذلك فإنه لا مناص من الموازاة بين هذا وذاك، وإلا كانت المسألة مجرد “انتظار غودو”، في أحد الفصول العبثية لصامويل بيكيت.
مرافق الكرة والشباب فتحت الشهية لتبون للانتشاء بوضع معالم الجزائر الجديدة، وللجزائريين بتحقيق الانتظارات التي تراكمت طيلة العقود الماضية، فهم يحلمون بالعلاج في مشاف عالمية وبالسفر في القطارات السريعة وبرقمنة الحياة اليومية، وبتطوير الخدمات المتنوعة، لأن حياة المجتمعات كل متكامل وليست ملاعب كرة قدم فقط.