هذا ما تريده الرباط.. أن تقر نواكشوط بطريقة ما كما فعلت عواصم أخرى بحقها في الصحراء، لكن المغاربة يعرفون قبل غيرهم أنه لن يكون سهلا عليها بعد أن حاولت وعلى مدى أكثر من أربعين عاما، الحفاظ على نوع من التوازن الصعب في تعاملها مع أعقد نزاع إقليمي يشهده الشمال الافريقي، أن تتراجع الآن لتتبنى موقفا مساندا لطرف على حساب الآخر، فالتعقيدات التي تلف الموضوع والضغوط التي قد تسلط عليها في تلك الحالة، فضلا عما قد يمثله التداخل الديمغرافي والحضاري الشديد بينها وبين تلك المناطق، إلى جانب ثقل ماض قريب لا تزال هواجسه وآلامه حاضرة بقوة في الذاكرة الموريتانية، تحول كلها دون حدوث مثل ذلك التغيير الدراماتيكي المفاجئ.
لن يكون سهلا على موريتانيا بعد حفاظها على نوع من التوازن الصعب في تعاملها مع أعقد نزاع إقليمي أن تتراجع الآن لتتبنى موقفا مساندا لطرف على حساب الآخر
لكن إن كانت الدوافع التي جعلت الموريتانيين يتمسكون طوال تلك المدة بما اعتبروه حيادا إيجابيا في الملف الصحراوي، تبدو مبررة إلى حد كبير، فهل أن موقفهم الذي «لم يتغير منذ 1979» مثلما شدد على ذلك الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية، في أحد مؤتمراته الصحافية في سبتمبر الماضي، صار اليوم وبعيدا عما يقال في وسائل الإعلام متجاوزا بفعل التحولات الهائلة التي حصلت في المنطقة في غضون السنتين الماضيتين، خصوصا بعد الاعترافين الأمريكي والإسباني بمغربية الصحراء؟ ألا تخطو موريتانيا الآن، كما قد يرى البعض نحو بداية اعتراف بمغربية الصحراء، رغم أنها ما تزال تقيم علاقات دبلوماسية مع البوليساريو، ولم تعلن بعد عن دعمها ومساندتها لمقترح الحكم الذاتي الذي عرضه المغرب في 2007 كحل نهائي وتوافقي للمشكل الصحراوي؟
من الواضح جدا أن واحدا من بين أكبر الاختبارات التي واجهها الموريتانيون في الأعوام الأخيرة، كانت الطريقة التي تعاملوا بها مع إعلان الرئاسة الجزائرية عن «تعرض ثلاثة رعايا جزائريين لاغتيال جبان في قصف همجي لشاحناتهم أثناء تنقلهم بين نواكشوط وورقلة، في إطار حركة مبادلات تجارية عادية بين شعوب المنطقة» في نوفمبر قبل الماضي، وفقا لما ذكره حينها بيان رسمي صدر عنها وهددت فيه «بأن اغتيالهم لن يمضي دون عقاب». لقد وضعهم ذلك مجددا في الصورة وأعادهم من جديد الى صراع حاولوا النأي عنه، ولم تغب عنهم أبدا حساسية أي موقف أو تصريح قد يصدر عنهم، كما كانوا يعرفون جيدا عواقب أي تقدير خاطئ قد يقومون به، وما يمكن أن يلحقه بهم أي انحياز، أو اصطفاف وراء أي طرف من الأطراف، من ضرر بالغ على أمنهم واستقرارهم ومصالحهم. ومع أن مواقع إخبارية موريتانية بادرت حتى قبل صدور البيان الجزائري للتأكيد على أن الحادث قد حصل داخل الأراضي الموريتانية، إلا ان بيانا للجيش الموريتاني حسم الأمور ليشدد على أن «أي هجوم استهدف شاحنات جزائرية شمال البلاد لم يحدث داخل التراب الوطني»، ما يعني غلقا لأي فرضية لأن يكون هناك رد فعل موريتاني محتمل من قبيل إدانة المغرب مثلا، لكن في نوفمبر الماضي لم يعد الحديث مقتصرا عن ضحايا جزائريين لما قيل إنه قصف مغربي في الصحراء، بل تحول إلى من وصفوا بمنقبين موريتانيين. وفي الحالتين بقي الحذر الموريتاني قائما، فالناطق الرسمي باسم الحكومة اكتفي بوصف الحادث بـ»الأليم» وقال إن «الحكومة مستاءة كل الاستياء» مما حصل داعيا الموريتانيين المنقبين عن الذهب إلى «الالتزام بالتوجيهات الصادرة عن الجهات الأمنية والإدارية»، ورغم أن بعض الأصوات ارتفعت للمطالبة برد أكثر قوة وحسما، بل ذهبت أبعد، حد تهديد الرباط من قبيل ما فعله الوزير السابق للثقافة والإعلام سيدي محمد ولد محمد، حين كتب على صفحته على فيسبوك، أنه يحذر المغرب من «تعمد قتل المدنيين الموريتانيين العزل بالطائرات المسيرة»، وأن «تكرار قصف الطائرات المسيرة المغربية المقبلة من خلف الجدار العازل بالصحراء المغربية لمدنيين موريتانيين عزل على أراض صحراوية، أمر يقتضي التنبيه إلى أنه من الصعب لجم الساكنة في جانبي خط الحدود الموريتانية الصحراوية، وإلزامها بحدود لا توجد لها معالم ولا إشارات تحددها، «إلا أن السلطات الموريتانية حاولت تجنب أي تصعيد من شأنه أن يمس بعلاقتها بجارتها الشمالية التي عرفت نوعا من التحسن منذ صعود ولد الغزواني إلى سدة الرئاسة، لكن أكثر ما لفت أنظار المتابعين في خضم ذلك هو ما جاء الشهر الماضي في أول تعليق رسمي من نوعه على لسان والي ولاية تيرس الزمور الحدودية حين قال في اجتماع شعبي: «إن حوادث مقتل المواطنين الموريتانيين خارج الأراضي الموريتانية لم تعد مقبولة»، قبل أن يضيف، «أن الحكومة ستبدأ إجراءات لمنع عبور المواطنين نحو المناطق غير الآمنة، خاصة المنقبين عن الذهب والمنمين». ليستطرد بعدها ويقول إن «من دخل حوزتنا الترابية سيرى ما سنفعل به، وفي المقابل يجب على مواطنينا عبور الحدود بطريقة قانونية، فالظروف لم تعد كما كانت في السابق، ولا نعلم كيف سيكون المستقبل، ومن المهم أن يدرك كل مواطن هذا الواقع». ويؤكد بعدها على أن «المحيط الإقليمي لم يعد يسمح بما كان ممكنا في السابق، فمنذ قرابة السنة تغير الوضع وآن لنا ان ندرك ذلك». وكان واضحا من كلام ذلك المسؤول أن نواكشوط قد بدأت بالفعل في إرسال بعض الإشارات على أنها لن تبقى طويلا مكتوفة الأيدي، وأنه لم يعد بإمكانها الاستمرار في تجاهل المتغيرات التي حصلت على الأرض، خصوصا تلك التي تلت العملية المغربية في نوفمبر 2020 في منفذ الكركرات الذي يمثل الشريان الحيوي للاقتصاد الموريتاني. والسؤال الذي يطرح نفسه هو، إن كان أقوى تعبير عن ذلك التشديد على أن الظروف لم تعد كما كانت وإن المحيط الإقليمي لم يعد يسمح بما كان يسمح به في السابق، فهل إن جبهة البوليساريو كانت المقصودة ضمنيا بالتهديد الذي وجهه لكل من يدخل ما سماها الحوزة الترابية الموريتانية، خصوصا أنه كان معروفا أن بعض عناصرها كانت تستخدم التراب الموريتاني مرات للقيام بعمليات عسكرية ضد القوات المغربية؟ في كل الأحوال فإن المعنى الوحيد لتصريح الوالي الموريتاني، الذي يعبر ومن دون شك عن وجهة النظر الرسمية هو، أن موريتانيا لن تمنع فقط مواطنيها من دخول ما تعتبره الرباط جزءا من ترابها، سبق أن حذّرت من الاقتراب منه، أو دخوله من دون إذن منها، بل إنها ستتصدى أيضا لأي محاولات أخرى لاختراق تلك المنطقة من داخل التراب الموريتاني، تحت ستار التنقيب أو الرعي أو أي حجة أخرى، وهو التكتيك الذي استخدمه أفراد من البوليساريو في بعض الأحيان. ومع انه لم يصدر حتى الآن أي تعليق رسمي في الرباط على ذلك التطور حتى بعد تأكيد الرئيس الموريتاني في السابع والعشرين من ديسمبر الماضي أن «السلطات الأمنية لن تسمح باستمرار تجاوز المنقبين لحدود البلد»، إلا أن المغاربة يرون بالتأكيد أن ذلك نوع من الإقرار الضمني بسيادتهم على الصحراء. أما هل سيطالبون نواكشوط بالمزيد وهل ستكون قادرة على فعله؟ فتلك وحدها قصة أخرى.