تتحرك السلطات الفرنسية من أجل جعل الهجرة خاضعة لإجراءات انتقائية تمكنها من استقطاب الكفاءات القادمة من دول المغرب العربي وفي مقدمتها الجزائر، وهو ما يمكن أن يفسح المجال أمام العاملين في القطاع الطبي للهجرة، لكنه سيدعم فرنسا في مقابل استنزافه الخزان البشري في الجزائر وحرمان البلاد من الكفاءات البشرية.
أقر مشروع قانون الهجرة الجديد في فرنسا إجراءات جديدة تستهدف استقبال الفئات العلمية والمهنية أمام الراغبين في الهجرة إليها، وهو ما يهدد الخزان البشري الجزائري بالاستنزاف، باعتبارها الوجهة المفضلة لهؤلاء، حيث سبق لأكثر من ألف طبيب جزائري أن غادروا دفعة واحدة إليها، وهو ما يمكن أن يمتد إلى القطاعات الأخرى، مما قد يخلق فراغا في بلدهم الأصلي.
يتطلع الكثير من المهاجرين الجزائريين النظاميين والسريين في فرنسا إلى دخول الإجراءات الحكومية الجديدة حيّز التنفيذ من أجل تسوية وضعياتهم الاجتماعية والقانونية، عبر الاستفادة من فرص الحصول على منصب عمل يكفل لهم التخلص من هاجس الترحيل الذي يؤرقهم منذ دخولهم التراب الفرنسي.
ويأتي المنتسبون والمكونون في المهن الطبية وأصحاب الحرف على رأس لائحة الفئات التي تريد الحكومة الفرنسية تسوية وضعياتها، بغية ملء الفراغ الذي تعاني منه في هذا المجال، خاصة وأنها بصدد التحضير لاحتضان الألعاب الأولمبية العام 2024 التي تتطلب أعدادا كبيرة من الحرفيين والمهنيين الذين يشيدون المنشآت والمرافق الموجهة للمحفل الرياضي العالمي.
وتعكف الحكومة الفرنسية على إضفاء ما تسميه بـ”الهجرة المتوازنة” على وضعية المهاجرين الأجانب الذين يقصدونها من مختلف الوجهات الإقليمية والدولية، وذلك بوضع آليات لفرض هجرة نوعية، تستهدف انتقاء الأفراد الذين تفتح لهم أبوابها انطلاقا من مؤهلاتهم وإمكانياتهم العلمية والمهنية.
وكشفت تقارير فرنسية بأن “الحكومة الفرنسية تحضر لمنح تصريح إقامة خاص للموظفين في مجال الصحة، من أجل استقطاب الأطباء الأجانب لتلبية الحاجة إلى التوظيف في مستشفيات البلاد”.
◙ الحكومة الفرنسية تحضر لمنح تصريح إقامة خاص للموظفين في مجال الصحة، من أجل استقطاب الأطباء الأجانب
وأوضحت التقارير بأن “تصريح الإقامة الجديد الذي يسمى (مواهب المهن الطبية والصيدلة) يخص الأطباء بمختلف تخصصاتهم، والقابلات وجراحي الأسنان والصيادلة”. وهو قطاع يرشح لأن يغري الكثير من الجزائريين سواء كانوا مهاجرين أو حتى عاملين في المؤسسات الصحية المحلية على الهجرة نحو فرنسا.
وكان نحو 1200 طبيب جزائري قد هاجروا دفعة واحدة شهر فبراير الماضي إلى فرنسا، في إطار حملة توظيف فتحتها السلطات الصحية الفرنسية لصالح نحو 2000 طبيب من دول شمال أفريقيا، وهو ما أثار لغطا كبيرا في البلاد، قياسا بالفراغ الذي تركه هؤلاء في القطاع الصحي الجزائري، والظروف المهنية والاجتماعية التي يزاول فيها هؤلاء نشاطهم، فضلا عن الخسائر التي تتكبدها الدولة في مثل هذه الحالات، كونها المستثمر الوحيد في التعليم والتكوين ومجانيته من المرحلة الابتدائية إلى غاية التعليم الجامعي.
وذكرت صحف فرنسية أن “هذا الإجراء يأتي في إطار مشروع قانون الهجرة الجديد، الذي سيسمح بمنح الإقامة للمهنيين الصحيين وعائلاتهم بمجرد توظيفهم من قبل مؤسسة صحية عامة أو خاصة غير هادفة للربح”، الأمر الذي سيغري منتسبي القطاع الصحي في الجزائر، ويهدد باستحداث نزيف غير مسبوق.
وشكل وضع المهاجرين خاصة السريين مصدر قلق للسلطات الفرنسية خلال السنوات الأخيرة، بسبب التدفق غير المسبوق لـ”الحراقة” من دول شمال أفريقيا والجزائر تحديدا، ولذلك ظلت تضغط على حكومات المنطقة من أجل استقبال رعاياها، إلا أنها لم توفق في ذلك.
وجاءت الخطوة التي تؤسس لهجرة انتقائية وضع قواعدها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، للتخفيف من الضغط الاجتماعي والسياسي لظاهرة “الحرقة” (الهجرة غير الشرعية)، حيث يعمد القانون الجديد إلى تصنيف المهاجرين إلى صنف “جيد” وصنف “سيء”، وتريد الاستفادة من الوعاء القابل للاندماج في المجتمع الفرنسي، والتخلص من الوعاء المزعج الذي بات يشكل مصدر قلق لها.
وتكون السلطة الفرنسية قد قابلت الليونة التي أبدتها الحكومة الجزائرية في استقبال الجزائريين المرشحين للترحيل، برفع القيود عن منح التأشيرات النظامية وعودة العمل القنصلي إلى وضعه الطبيعي، قد بلغت مرحلة متقدمة من تفكيك لغم “الحراقة”، بدمج وطلب المزيد من ذوي الخبرات، وترحيل الأعداد غير المرغوب فيها.
وإذ تقدر الجالية الجزائرية في فرنسا بنحو خمسة ملايين مهاجر، فإن التضارب يخيّم على أعداد الحراقة (المهاجرين غير الشرعيين) الوافدين تباعا إلى الأراضي الفرنسية خاصة خلال السنوات الأخيرة، ففرنسا تظل الوجهة الأولى لهؤلاء لأسباب اجتماعية وثقافية.
وتقول فرنسا إن عدد المهاجرين غير النظاميين الجزائريين يبلغ نحو سبعة آلاف مهاجر. واللافت أن هؤلاء المهاجرين من مختلف المستويات والفئات الاجتماعية، في حين يختار عدد محدود عواصم أخرى في أوروبا وأميركا الشمالية.
وكان وزير العمل أوليفييه دوسوبت ووزير الداخلية جيرالد دارمانان قد أعلنا عن الإجراءات الرئيسية التي يشملها قانون الهجرة المقرر تطبيقه في النصف الأول من عام 2023 بعد عرضه على البرلمان، يستهدف “تحقيق التوازن بين عمليات الترحيل الأكثر صرامة واليد الممدودة للعمال المهاجرين”.
◙ وضع المهاجرين شكل مصدر قلق لباريس بسبب التدفق غير المسبوق لـ”الحراقة” من دول شمال أفريقيا والجزائر تحديدا
ولفتا إلى أن القانون يرمي إلى “تسهيل الاندماج المهني في القطاعات التي تعاني من نقص في اليد العاملة، وإنشاء تصريح إقامة لمهن مطلوبة، فضلا عن إمكانية إنهاء فترة الانتظار التي تمنع طالبي اللجوء من العمل خلال الأشهر الستة الأولى من وصولهم إلى فرنسا”.
وخلال العقود الماضية نجح مهاجرون جزائريون في مجالات عدة، وخاصة في الطب، على غرار البروفيسور كمال صنهاجي، الباحث المتخصص في العلاج الجيني للسيدا، والذي قلده الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في سنة 2006 وسام جوقة الشرف الوطنية، وهو أعلى وسام تكريمي في فرنسا.
وكانت قضية التأشيرات وترحيل الرعايا الجزائريين المقيمين بطريقة غير قانونية في فرنسا قد أحدثت خلافات حادة بين البلدين نهاية شهر سبتمبر 2021، ونشبت إثر ذلك أزمة دبلوماسية، بعد إعلان وزير الداخلية الفرنسي جيرار درامانان عن قرار بخفض التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين بنسبة 50 في المئة، ردا على ما اعتبرته باريس مماطلة السلطات الجزائرية في القبول بترحيل رعاياها من المهاجرين غير النظاميين المقيمين في فرنسا.
وظلت هذه الأزمة تلقي بظلالها، إلى جانب خلافات سياسية حول قضايا أخرى، على العلاقات بين البلدين، إلى أن زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر في الخامس والعشرين من أغسطس الماضي، حيث تم التوصل إلى تفاهمات ضمن “إعلان الجزائر”.
ونص إعلان الجزائر على سلسلة من التوافقات من بينها حل أزمة التأشيرات وأزمة التراخيص القنصلية الخاصة بالرعايا الجزائريين المقيمين بطريقة غير شرعية على الأراضي الفرنسية، والذين صدرت في حقهم قرارات بالترحيل.