اليوم سيتحدد بطل العالم في النسخة الثانية والعشرين لمونديال كرة القدم، والذي هويته لن تخرج عن توقعات الكثيرين، حيث سيتوج أحد المنتخبين الفرنسي أو الارجنتيني بطلاً، من بين ستة أو سبعة منتخبات رشحوا بقوة لاحراز اللقب، لكن بطل القلوب لمونديال 2022 بدون أدنى شك هو المغرب، فيما بطل العقول ليس سوى صاحب الضيافة قطر الذي فاق التوقعات بنجاح تنظيمه للبطولة.
نعم اليوم سيتوج مبابي للمرة الثانية، أو سيحمل زميله في باريس سان جيرمان ليونيل ميسي اللقب للمرة الأولى في تاريخه، لينهي مسيرته الدولية بأكبر لقب ممكن، يضعه من بين عظماء اللعبة، وطبعا هو مشهد مكرر للبلدين، حيث سيكون اللقب هو الثالث لأي منهما في حال احراز اللقب، بعدما نجحت فرنسا في احراز اللقب عامي 1998 و2018، فيما أحرزت الارجنتين اللقب في 1978 و1986، أي أن لا انجاز جديداً لأي منهما، بل هو مكرر، لكن البطل الحقيقي لهذا المونديال هو بطل القلوب المغرب، وأيضا قطر بطلة العقول.
المغرب حظي بتأييد ومساندة الجميع، ليس فقط في عالمنا العربي، بل أيضاً بمساندة عالمية بدون استثناء، عدا عن جماهير المنتخبات التي كان يلعب ضدها. وسبب التأييد العالمي مفهوم، كونه نابع من غريزة المشجع الكروي العاشق للمستضعف أو غير المرشح، بعدما أصبح منتخب «أسود أطلس» فاكهة البطولة. لكن مع ذلك كنت أتساءل هل كان هذا الاجماع العربي سيكون بهذا الزخم على مواكبة منتخب واحد لو كان منتخب عربي آخر، كقطر او السعودية او تونس، هو الذي حقق هذه النتائج الرائعة وتأهل الى نصف نهائي المونديال؟ ربما الجواب قد يكون نعم، والسبب ان المونديال القطري كان أرضاً خصبة للحمة عربية كانت غائبة منذ عقود، ففجأة رأينا الجميع يتعرى من الملابس السياسية والمناكفات الفكرية، فاحتفل عدد من الشيعة بانتصار رهيب للسعودية على الارجنتين، واصطف جزائريون الى جانب اخوتهم المغاربة في الهتاف «ديما مغرب» و«سير سير سير»، وبين الجميع كان هناك عامل مشترك، هو العلم الفلسطيني، الذي كان حضوره بارزاً بين كل الجماهير العربية، بل اعتبر كثيرون أن فلسطين كانت الدولة الـ33 التي تشارك في المونديال من بين 32 منتخباً، وامتدت هذه العاطفة الى الكثير من الجماهير الأجنبية، على غرار البرازيل والارجنتين وكرواتيا، بل حتى جماهير إنكليزية رددت «فلسطين حرة»، لتقض مضاجع الكيان الصهيوني الذي اشتكى مراسلوه من التهميش الذي تعرضوا له، والتذكير الدائم بجرائمهم في فلسطين المحتلة.
هذه الظاهرة (التجمع حول العلم الفلسطيني) كانت مخيفة الى حد كبير، فهي مخيفة بشكل إيجابي لكثير من الوطنيين والذي يؤمنون بعدالة قضية الامة، ومخيف بشكل حقيقي لعرابي التطبيع والذين يلهثون خلف اتفاقات ثنائية لمصالح قد تكون شخصية لأفراد، او عامة محدودة ومؤقتة، لكن ما حدث أيقظ مارداً قد يقلق كثيرين، فهذه الأمة لا تسير على أهواء زعمائها، بل لديها صوت وموقف، وتجلى ذلك كثيراً مع تألق لاعبي المنتخب المغربي ومواصلة مشوارهم حتى خوض مباراة يوم أمس السبت، ولهذا هو بطل القلوب.
أما بطل العقول، فهو بلا استثناء ما قامت به قطر لاستضافة واحدة من أجمل نهائيات كأس العالم، ومثلما شاهدنا الجماهير مستمتعة في مدرجات استادات ولا أروع، كانت الاحتفالات أيضاً خارج هذه الاستادات تسير بصورة رائعة، الى درجة ان الصحافة البريطانية أشادت بالتنظيم، خصوصا أنه لا توجد أي حالة اعتقال على الاطلاق لأي مواطن بريطاني (إنكليزي أو ويلزي)، وهي واقعة تحدث للمرة الأولى في نهائيات بطولة كبرى على مدى عقود طويلة، والفضل الأول يعود الى حسن التدابير الأمنية وأيضا لتقليص توافر الكحول، الذي أبقى البطولة خالية من أعمال عنف او شغب، في حين كانت مدن أوروبية عدة، خصوصا في فرنسا وبلجيكا تصارع لتفريق المتظاهرين والحد من أعمال الشغب، لكن قطر صارت بطلة العقول لحكمتها في التعامل مع الانتقادات وقدرتها على تحويل هجوم بعض دول الغرب، على غرار ألمانيا وشعار المثليين، الى طاقة سلبية للمنتقد، وبلباقة وهدوء وترو.
يا لها من رياضة، ويا لها من وسيلة، فهي ليست عبارة عن كرة جلدية منفوخة يلهث خلفها 22 شاباً لضمان هز شباك المنافس فحسب، بل على بساطتها، فان كل هدف يهز مرمى الخصم، فانه كان يهز أركان دولة وأمة، اما طرباً واحتفالاً واما غضباً وأسفاً، لكن في عالمنا، الذي نسميه بالعربي، رغم ان هناك من يعود به الكاره والمفرق الى الاصرار على الشقاق وتسمية البعض بالامازيغ وكنعان والفينيق، والعاربة والمستعربة، في محاولة لتفريق الشمل مجدداً، نجحت كرة القدم في ايجاد ملك للقلوب وآخر للعقول، ليكون في الوجدان زهرة مشرقة ومبتسمة تصرخ «تحيا فلسطين».
