أسوأ عام: بوليساريو.. نهاية مشروع يائس

ما مرّ أسبوع في كل تاريخ تنظيم بوليساريو أسوأ من الأسبوع الفائت، حتى باتت علامات نهاية المشروع الانفصالي واضحة.

فبالرغم من كل إغراءات شراء الأسلحة الروسية التي وعدت بها الميزانية العسكرية الجزائرية الضخمة، البالغة نحو 25 مليار دولار، آثرت موسكو أن تُبقي نفسها على الحياد حيال مسألة الصحراء المغربية.

في العاشر من الشهر الجاري، وبوساطة جزائرية، زار وفد لبوليساريو موسكو، ولكنه عاد منها بخيبة أمل، دفعت إلى الاعتقاد بأن روسيا لم تعد تنظر إلى هذا التنظيم على نحو ما تراه المؤسسة الجزائرية.

فشل دبلوماسي

وزارة الخارجية الروسية أصدرت بلاغا في أعقاب اللقاء مع ممثلي التنظيم دعت فيه إلى “حل مقبول، في إطار الأمم المتحدة”. وهو ما يمثل انتكاسة كبرى لبوليساريو وتراجعا من جانب آخر للقوى الدولية الكبرى، ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، التي كانت بوليساريو والجزائر تعولان على بقاء دعمها.

ويقول المراقبون إن العلاقات المغربية – الروسية التي تتطور بهدوء تعكس فهما جديدا لدى موسكو يقول إنه بينما لا تملك الجزائر حليفا وشريكا أكبر من روسيا، ما يجعلها عاجزة عن التخلي عنه، تنسج روسيا علاقات شراكة تدعم مصالحها مع المغرب، وهي تعرف أنه مستعد لقطع علاقاته معها إذا أظهرت موقفا قد تعتبره الرباط استفزازيا ويمس بسيادتها على أراضيها.

المغرب تعمد الامتناع عن التصويت ضد روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، من دون أن يؤثر ذلك على علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا. فهذان الطرفان أظهرا تفهما للدوافع المغربية. وبينما تفرض العقوبات ضد روسيا قيودا على رحلات طائرات روسيا وسفنها، فإن الأجواء المغربية مفتوحة لها، وهناك نحو 10 سفن صيد روسية تعمل في المياه الإقليمية المغربية.

وتحقق التوازنات الدبلوماسية المغربية مكاسب على مستوى الدفاع عن سيادة المغرب ووحدة أراضيه، بما أصبح حقيقة راسخة تزيد في عزلة بوليساريو وتجردها من أسلحة الدعاية التي استفادت منها سابقا في الترويج لكيان سياسي لا وجود له على أرض الواقع. فالجمهورية الصحراوية ليست من الناحية العملية سوى “جمهورية” لاجئين مقامة على أراضي دولة أخرى.

كانت القمة الأميركية – الأفريقية بمثابة صفعة أخرى لبوليساريو؛ فبينما ظل التنظيم يراهن على علاقات وضغوط وهبات الجزائر لكي يحظى بامتداد أفريقي، فإن 49 من قادة الدول الأفريقية المشاركة في القمة، بمن فيهم الوزير الأول الجزائري نفسه أيمن بن عبدالرحمن، لم يثيروا خلال أعمال القمة المسألة الصحراوية، ولم يتطرقوا إلى السبب الذي منع واشنطن من دعوة بوليساريو إلى القمة.

وقد ركّز الوزير الأول أيمن بن عبدالرحمن في مداخلاته على قضايا التنمية، واعتبر أن طريق “تندوف – الزويرات” بين الجزائر وموريتانيا واحد من أبرز نماذج “المنشآت القاعدية الكبرى التي تأخذ بعين الاعتبار البعد الاندماجي الإقليمي”.

ولكن هذا الطريق، هو نفسه، صار يمثل صفعة أخرى لآمال بوليساريو، بأن تكون أراضي الصحراء المغربية هي الممر الذي يوصل الجزائر إلى المحيط الأطلسي ويربطها بغرب القارة الأفريقية.

إن استغناء الجزائر عن الخط الصحراوي الذي طال انتظاره يزيل رهانا من أبرز رهانات بوليساريو الجيوسياسية، ويزعزع أهميتها كقوة ذات منافع اقتصادية كبرى للجزائر. وهذا ما يزيد في جعلها مجرد عبء سياسي ومادي وأمني.

 

 

وكان دخول إيران على خط الدعم العسكري لبوليساريو، بحسب المراقبين، إحدى أكبر السقطات غير المدروسة للدبلوماسية الجزائرية. وقد انقلب وبالا على التنظيم وزاد في عزلته؛ فنظام طهران المنبوذ دوليا والمتهم برعاية أنشطة إرهابية، مثل قيامه بتزويد روسيا بطائرات مسيرة للمشاركة في قصف البنية التحتية في أوكرانيا، وقمعه الاحتجاجات التي أظهرت مدى عزلته الداخلية، ليس طرفا جديرا بالتعاون معه. وهو بصفاته هذه إنما يُلحق العار بكل من يرتبط به أو يستفيد من خدماته.

وقد قال وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في 3 أكتوبر الماضي إن “طهران، بتبنيها لفاعلين غير حكوميين مسلحين، أصبحت تهدد السلم الإقليمي والدولي، عن طريق حصول هؤلاء الفاعلين على أسلحة وتقنيات متطورة، على غرار الطائرات المسيّرة”. وإيران، بحسب بوريطة، “هي الممول والداعم الرسمي للانفصال والجماعات الإرهابية عبر تسهيل حصولهم على أسلحة متطورة، فضلاً عن تدخل طهران في الشؤون الداخلية للدول العربية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق جماعات إرهابية مسلحة”.

ومن جهته قال السفير الدائم للمغرب في الأمم المتحدة عمر هلال، في تلميح ساخرة في أكتوبر الماضي، إن الطائرات المسيرة التي سلمتها طهران لتنظيم بوليساريو يتراوح سعرها بين 20 و22 ألف دولار، وإن شراء طائرة واحدة كفيل بإطعام 300 شخص في السنة في مخيمات تندوف وتقديم العلاج لـ500 شخص وتعليم 120 طفلا.

حصول جبهة بوليساريو على طائرات إيرانية مسيرة تحول إلى مشكلة لبوليساريو والجزائر معا؛ فلا هما قادرتان على استخدامها لضرب منشآت حيوية مغربية، ولا هما قادرتان على التخلص مما لحق بهما من لوثة الارتباطات مع نظام يمارس أعمال الإرهاب ويجند منظمات إرهابية في الخارج، حتى أصبحت بوليساريو واحدة منها. وهذا ما نزع عنها الصفة “التحررية” التي حاولت الاتجار بها على امتداد العقود الماضية.

وأصبح الإفلاس السياسي واضحا بسبب هذه الارتباطات. وهناك من يتوقع أن يكون المغرب أكبر المستفيدين من أول استخدام لتلك الطائرات المسيرة. الأمر الذي سوف يوفر له تضامنا دوليا أوسع، وتأكيدا على صواب منهجيته في التعامل مع هذه الجماعة الانفصالية، بل وقد يشكل حافزا لتحرير الـ20 في المئة الباقية من أراضيه الصحراوية، قبل أن يقضي حتى على مقترح الحكم الذاتي لتسوية النزاع.

انقسامات داخلية

 

 

كل هذا في كفة، والانقسامات الداخلية للتنظيم في كفة أخرى.

أولا، هناك منافسات على المراكز والامتيازات، دفعت بعض أبرز قياداته إلى الاستقالة.

وثانيا، هناك ما يسمى “صراع أجيال” داخل التنظيم، يصنع شرخا بين طرفين على الأقل، واحد يريد استئناف الحرب، ولا يقدر على كسبها، والآخر يراهن على العلاقات الخارجية، وبات يرى أنه يخسرها.

في تصريح مسجل يقول ولد سيد البشير “وزير” الجاليات والمناطق الصحراوية في حكومة التنظيم، إن جيله “هيمن على كل المناصب، وأقصى الشباب الحاليين رغم تعلمهم وحصولهم على الشهادات الدراسية”. ويضيف “سيطرنا كجيل على جميع الوظائف، من أقل منصب مسؤولية إلى أعلى هرم في السلطة”، في إشارة إلى منصب الأمين العام للجبهة.

ويُنقل عن الكنتاوي سيد اعمر، الناطق الرسمي باسم منتدى فورساتين (وهو تجمع داعم للحكم الذاتي من داخل مخيمات تندوف)، قوله إن كلام البشير “دليل على تفاقم الأمور وعدم القدرة على احتوائها في مجالس الأمانة العامة لجبهة بوليساريو”.

وانتقد القيادي البشير مصطفى السيد في مقال له زيارة زعيم التنظيم إبراهيم غالي إلى النواحي العسكرية، وصوره خلال تلك الجولة، قائلا “إنها مجرد نزهة لأخذ سيلفي ليس أكثر”.

وانتهى الأمر بالقيادي المكلف بالاتحاد الأوروبي في التنظيم، أبي بشرايا البشير، إلى تقديم استقالته لرئيس التنظيم إبراهيم غالي، قائلا في تغريدة إنه قدم طلب إعفاء مكتوبا بتاريخ 25 يونيو الماضي، ومؤخرا قدم لرئيس الجبهة استقالة مكتوبة من مهامه كـ”مكلف بأوروبا والاتحاد الأوروبي”، وتابع “شكرت ثقته، لكن خلافات عميقة معه حول الرؤية والأساليب والأدوات أجبرتني على ذلك”.

وردا على اتهامه بالسعي للانشقاق قال إن “الاستقالة فعل مسؤول وشيطنتها في ثقافتنا السياسية أحد أسباب عدم التجديد والتواصل”، وأضاف أن “التفريط هو الاستمرار في التمسك بالمنصب كموظف، بعد التأكد من عدم إمكانية تحمل المسؤولية كقائد”.

بشرايا البشير الذي ولد عام 1970 بالزويرات في موريتانيا، يعد واحدا من أبرز وجوه التنظيم في الخارج، وكان ممثلا له في هولندا ثم في المملكة المتحدة وإيرلندا، قبل أن يعين “سفيرا” في جنوب أفريقيا ثم في نيجيريا، وعام 2016 عاد إلى أوروبا ليكون ممثلا لبوليساريو في فرنسا. ولكنه بات يرى كيف أن “دبلوماسية” التنظيم بدأت تنهار؛ من ناحية أولى، بسبب خيارات سياسية خاطئة ربطت بين التنظيم وتنظيمات إرهابية أخرى مثل حزب الله في لبنان. ومن ناحية ثانية، بسبب عجز التنظيم عن تشكيل قيمة جغرافية فعلية بالنسبة إلى الجزائر. ومن ناحية ثالثة، لأنه لا يريد سلاما، يعتبره صقور التنظيم استسلاما، كما لا يقدر على الحرب في آن واحد.

وزاد الفشل السياسي وضوحا بعدما أصدر مجلس الأمن الدولي قراره الأخير حول الصحراء في نهاية أكتوبر والذي دعا فيه المغرب وبوليساريو والجزائر وموريتانيا إلى استئناف المفاوضات، “بدون شروط مسبقة وبحسن نية” في أفق التوصّل إلى “حلّ سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين” بهدف “تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”.

الجزائر التي لم تعد تعرف ما الطريق الذي يمكن السير فيه، رفضت العودة إلى طاولة المفاوضات. وقالت بوليساريو إن القرار الأممي “حكمَ مسبقا بالفشل على مهمة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا”.

الطرفان لا يريدان التفاوض على حل سياسي عادل ودائم. ولا يجرؤان على إعلان الحرب ضد المغرب، فوضعا نفسيهما في منتصف طريق الفشل؛ فلا هما يعترفان به، ولا هما يملكان الأدوات لشق طريق آخر. وهو ما يجعل “القضية الصحراوية” مجرد مشروع يائس أمضيا فيه نحو خمسة عقود من الزمن ولا يملكان الشجاعة على القول إنها كانت من دون طائل.

واللاجئون في تندوف أنفسهم يواجهون أوضاعا صعبة. علامتها الرئيسية أنها غير مستقرة. وبمرور الزمن أصبحت هناك ثلاثة أجيال لا تتفق فيما بينها على خيار. ولكن يوجد بينها من يدافع عن خيار قبول الحكم الذاتي، قائلا إن مرور المزيد من الزمن سوف يؤدي إلى خسارة هذا الخيار.

وتشير تقديرات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين الجزائرية الى إنه يوجد 165 ألف لاجئ صحراوي في المخيمات الخمسة الموجودة قرب تندوف. بينما تقول وكالات الأمم المتحدة إن العدد يتراوح بين 90 و125 ألف لاجئ. وبحسب التقديرين معا، فإن الأعداد تكاد لا تشكل حجم بلدة متوسطة في المغرب. الأمر الذي يجعل الحديث عن “جمهورية” مجرد مزحة، لاسيما وأنها “جمهورية” بلا موارد، وإن كانت لديها أسلحة!

في خضم كل هذه الأجواء من اليأس والبؤس والفشل، دعا محمد يسلم هيدالة في رسالة مفتوحة نشرت في الثاني عشر من الشهر الجاري، رؤساء الأحزاب السياسية والنشطاء الحقوقيين وممثلي المجتمع المدني في موريتانيا إلى مقاطعة أنشطة بوليساريو، وفي مقدمتها مؤتمرها العام، بسبب ما ترتكبه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

وقال هيدالة، وهو معتقل سابق بسجن ولد الرشيد في مخيمات تندوف، إن التعذيب الذي تعرض له المواطنون الموريتانيون في مخيمات تندوف أدى إلى وفاة الكثير منهم، “ونجت منهم قلة ليكونوا شهداء على ما فعل بهم في سجن الرشيد بمباركة من اللجنة التنفيذية لقيادة بوليساريو”.

أسبوع واحد، على أي حال، كان كافيا ليكشف عن انهيار الدعم الدولي، والعزلة الأفريقية، وتراجع المكانة، والفشل السياسي، وافتضاح العجز العسكري، وسقوط القيمة الجغرافية. وهو ما يجعل الطريق إلى الإفلاس مفتوحا، وعلامات النهاية لمشروع يائس تلوح في الأفق المنظور.